الإبداع في ذروته .. رفعت العرعير مثالاً
حسام شاكر
باحث ومؤلفأيُّ إبداعٍ يُضاهي أن تُنسَج القصيدة المعبِّرةُ من نزفِ شاعرها أو أن تصير الكلمات المنقوشة بالتضحيات العزيزة محفوظاتٍ مُعولَمة في يومها التالي؟
لا يتطلّب الإبداعُ حينها أكثر من موقف مشهود يبرهن على صدق انبثاق المعنى عن صاحبه، وقد تأتي المفردات يسيرةً على اللسان لكنّها تقتدر على هزِّ ضمائر العالم الحيّة من حيث لم يحتسب أحد. قالها جدّ فلسطيني معمّم، ظهر بوجه سَمِح محتضناً حفيدة أزهق القصفُ الوحشيّ روحها البريئة، فأوجز مشاعره الفيّاضة نحوها بقوله .. إنّها "روح الرُّوح".
أنهار من دَمْع ذرفها بشرٌ حول الأرض وهم يُشاهدون مقطعاً طارت به الركبان في فضاءات التواصل، فرُسِمت صورة هذا الفلسطينيّ في مسيرات حاشدة أو رُفِعت مقولته: Soul of the soul لتصير مصطلحاً إنسانياً له وقعه الخاصّ في زمن الظواهر الجماهيرية المُنسابة عبر القارّات.
جادت غزةُ على مجتمعات الأرض بوفرة من الوجوه والأسماء التي حرّكت وجدانها من الأعماق في شهور معدودة، كما فعل أكاديميّ نحيل ذو إطلالةٍ خجولة، عندما رثى نفسه بقصيدة وجيزة المبنى عميقة المعنى، ثمّ حلّق بعيداً تاركاً كلماته لتفعل فعلها المُذهِل بجماهير الكوكب.
في إيطاليا، مثلاً، صعد شابّ وشابّة المنصّة لإلقاء القصيدة، مستئذنين الجالسين في اقتطاع وقتٍ يسير من البرنامج الثقافي لهذا الغرض. باحوا بالكلمات الشعرية المنقوشة بدماء الدكتور رفعت، بعد أن نقلوها عن متنها الإنجليزي إلى لسان إيطالي مُبين. سردوا القصيدة بصوت متهدِّج استنزف الدمع من جماهير الجالسين في المدرّجات، ثم صفّق القوم عن آخرهم من الأعماق بعد انتفض وجدانهم ممّا كتبه الأستاذ الجامعي من غزة الذي لم تم تجفّ دماؤه الزكية بعد. حدث مثل هذا في منصّات عدّة، حدث فجأة بأشكال متعدِّدة، فالرسالة وصلت إلى عناوينها بألسُن الأرض وعبرت سريعاً إلى ثقافات العالم.
إنها الحروف الصادقة التي تنقشها التضحيات، والكلمات المُعبِّرة التي تشكِّلها المواقف، وهي العطاء في مقامه والإبداعُ في ذروته، على نحو ما سطّره رفعت العرعير في قصيدةٍ سرعان ما امتثلت الجماهيرُ لكلماتها، فسُطِّرت المفردات شعاراً في مظاهرات عبر العالم، وتُلِيت على أسماعِ المحتشدين في عواصم ومدن عدّة، واتُّخِذت رمزاً مرئياً من رموز التضامن مع فلسطين، قوامه طائرةٌ ورقية، هي الوفاءً الحرفيّ للوصية التي خلّفها الشاعر من بعده؛ بأن تُصنَع هذه الطائرات وتُترَك لتداعبها نسمات الحرية التي يستحقّها أطفالُ فلسطين.
كتب الصديق العزيز رفعت العرعير كلماته هذه قبل أيام قليلة من ارتقائه مع قوافل الشهداء، ولم يفارقني الدمعُ وأنا منهمك في تعريبها، فأدركتُ سرّ الكلمات النابضة، فالحالةُ عينها انتابت أقرانٍاً لي نقلوها إلى ألسنتهم المتفرِّقة في شعاب الأرض ثمّ نشروها في منصّاتهم الشبكية وأفصحوا عن تجربتهم الشخصية معها.
كتب الشاعر الذي ارتقى مع كلمات القصيد:
إن وَجَبَ الموْتُ عَلَيّ
وَجَبَتْ عليْكَ الحياة
لِتَرْوِيَ قِصّتي
لِتبيعَ لوازِمي
فتشتري قِطْعةً من قُماش
وبضعةَ خيوط
(اجعلها بيضاء، مع ذَيْلٍ طويل)
كي يُتاحَ لطفلٍ، في مكانٍ ما من غزّةَ
وهو يرمُقُ السماءَ بِالعَيْن
مُنتظراً والداً وَلّى في الحريق
- ولم يُودِّع أحداً، ولا حتّى لحمه ولا ذاته –
بأن يرى الطائرةَ
الطائرةَ التي صَنَعْتَها، وهي تُحلِّق في الأعالي
فيحسَبُ في لحظَتِهِ بأنّ ملاكاً مِن هُنالِك
يُعيدُ لَهُ الحُبّ.
إنْ وَجَبَ الموتُ عليّ
دَعْهُ يجلبُ أملاً
دَعْهُ يَصيرُ حِكاية.
هكذا تكلّم رفعت العرعير، أو هكذا تقريباً كما أراد من نصِّه الإنجليزي، وقد استنّ لنا المبدعُ المولود عام 1979 سنّة رثاء الذات وترك الوصيّة من بعدِنا كي تحيا، أن ندعها كي تنمو وتتبرعم، كي تصير حلماً يداعبُ الأجيالَ من بعدنا، على طريق الحرية والمجد!.
أضف تعليق
قواعد المشاركة