غزّة بين جحيمِ ترامب وخذلانِ الأُمّة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينييا لهُ من تهديدٍ مُلهمٍ! دونالد ترامب، سيِّدُ الدراما ومُهندسُ المُفاجآتِ السِّياسيَّةِ، يُهدِّدُ قطاعَ غزَّةَ بفتحِ أبوابِ الجحيمِ إذا لم يُفرج عن الأسرى الصهاينة. لكنَّ السؤال الذي لا بدَّ أن يُطرح: أيّ جحيمٍ هذا الذي يُهدِّدُ بهِ ترامب؟
أليس هو ذاتُ الجحيمِ الذي يعيشهُ أهلُ غزَّةَ يوميّاً منذُ عقودٍ؟
ترامب، بنبرتهِ الجهوريَّةِ وبريقِ منصَّتهِ الذَّهبيَّةِ، يُلوِّحُ بيديهِ كما لو كان يُديرُ عرضاً هزليّاً في لاس فيغاس، ثمَّ يُلقي تصريحاً أرادهُ مدوِّياً: "سنفتحُ أبوابَ الجحيم!" وكأنَّ تلك الأبوابَ موصدةٌ أصلاً!
غزَّةُ، يا ترامب، ليست بحاجةٍ إلى جحيمٍ آخر.
الواقعُ فيها يكفي ليفوقَ أيَّ سيناريو رعبٍ قد يتخيَّلُهُ دماغُكَ الهوليووديُّ.
عشراتُ الآلافِ من الشهداءِ والجرحى، ومدينةٌ لم تعُد تصلُحُ إلَّا كخلفيَّةٍ لفيلمٍ عن قصصِ الأشباحِ والأنقاضِ.
الكِلابُ الضَّالَّةُ تبحثُ بين الرُّكامِ عمَّا تبقَّى من حياةٍ، بينما المخيَّماتُ "المؤقَّتة" باتت مُستدامةً، والخيامُ المكتظَّةُ تُصبحُ سقفاً دائماً للناجينَ الذين يتحسَّرونَ على أيَّامٍ كانوا فيها سجناءَ في "سجنِهم المفتوحِ" المُسمَّى غزَّة.
فهل تظنُّ، يا ترامب، أنَّ تهديداً دراميّاً كهذا قد يُرعبُ شعباً اعتادَ الحياةَ في قلبِ الجحيمِ؟
الحقيقةُ أنَّ أهلَ غزَّةَ تجاوزوا الجحيمَ منذُ زمنٍ بعيدٍ. إنَّهم يتنفَّسونهُ، ويعيشونَهُ، ويحوِّلونَهُ إلى روتينٍ يوميٍّ، يختلطُ فيهِ الموتُ بالحياةِ، والصَّبرُ بالقهرِ.
وربَّما عليكَ أن تعرفَ، يا سيِّد البيتِ الأبيضِ، أنَّ فتحَ أبوابِ الجحيمِ لن يكونَ بالنسبةِ لغزَّةَ إلَّا باباً جديداً لتذكيرِ العالمِ بأنَّ هناكَ شعباً لا يزالُ صامداً، يصرخُ في وجهِ الكونِ: "نحن شعبٌ لن يُقهرَ! "
في الحقيقة، لو كان هناك جحيمٌ آخر، فربَّما سيأتي ببعض الامتيازاتِ التي لم تعرفها غزَّةُ منذُ زمنٍ.
من يدري؟ ربَّما جحيمُ ترامب يتضمَّنُ إنترنتاً أسرعَ أو ماءً صالحاً للشُّربِ؟
أمَّا خطابُ ترامب، فهو ليس أكثر من استعراضٍ هزليٍّ يهدفُ إلى إضافةِ جرعةٍ من الإثارةِ إلى قضيَّةٍ قديمةٍ قِدمَ صمودِ غزَّة.
بالنِّسبةِ لأهلِها، باتت تهديداتُ الجحيمِ مجرَّد نُكتةٍ أخرى، يضحكونَ عليها بحسرةٍ ومرارةٍ، قبل أن يعودوا إلى نضالِهم الأبديِّ داخلَ جحيمِهم الحقيقيِّ، ذلك الجحيمِ الذي لم تُغلَق أبوابُهُ يوماً.
لكن في وسطِ هذا السِّيناريو، لا يمكننا إلَّا أن نستذكرَ المأساةَ الحقيقيَّةَ: خذلانُ الأُمّةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ. بينما يلوِّحُ ترامب بمفاتيحِ الجحيمِ، تُغلَقُ أمام غزَّةَ أبوابُ الأُخوَّةِ والمساندةِ، تلكَ الأبوابُ التي كان يجبُ أن تُفتحَ منذُ زمنٍ.
غزَّةُ ليست فقط ضحيَّةً للاحتلالِ والصَّواريخِ، بل هي أيضاً ضحيَّةُ صمتٍ عربيٍّ مدوٍّ، وتواطؤٍ مُهينٍ.
عالَمٌ عربيٌّ غارقٌ في التَّنديدِ من بعيدٍ، مُمتنعٌ عن مدِّ يدِ العونِ، وكأنَّ تلك اليدَ باتت ثقيلةً أو ملوَّثةً بمصالحِهِ الضَّيقةِ.
في عصرِ الثَّراءِ والقوَّةِ، كيف أصبحت غزَّةُ مكاناً يُقتاتُ فيهِ شعبٌ بأكملِهِ على الصَّبرِ وحدهُ؟
الحزنُ الحقيقيُّ لا يكمنُ فقط في تهديداتِ الأعداءِ، بل في تلك النَّظراتِ الفارغةِ القادمةِ من أمَّةٍ كانت يوماً عظيمةً، لكنَّها الآنَ عاجزةٌ عن تضميدِ جراحِ غزَّة.
فأيُّ جحيمٍ هذا الذي نخشاهُ أكثر من خذلانِ الأخِ لأخيهِ؟

أضف تعليق
قواعد المشاركة