وصيّةُ ندى لافي كلّم: حينَ تكتُبُ الأرضُ رسالتَها الأخيرةَ

منذ 9 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

أنا ندى، ابنةُ عشيرةِ عربِ السّمنيّةِ، ابنةُ هذا الترابِ الذي التصقَ بقدميَّ منذُ أولِ خطوةٍ، وبيديَّ منذُ أولِ حفنةِ ترابٍ لعبتُ بها.

أنا ابنةُ كرومِ العنبِ التي حفظت اسمي، وابنةُ زهرِ الليمونِ الذي غمرني بعطرِهِ كلَّ صباحٍ، وابنةُ الزعترِ الذي كانَ ينبتُ بينَ أصابعِ يديَّ كلّما لمستُ الأرضَ.

أنا ندى، ابنةُ الزيتِ والزيتونِ، ابنةُ وادي القرن ووادي كركرة، ابنةُ الحقولِ والينابيعِ والسماءِ المفتوحةِ فوق الجليلِ.

اليوم أكتُبُ لكم وصيّتِي الأخيرة، وأنا أعلمُ أنَّ الجسد قد يغيبُ، لكنَّ الروح المجبولة بحبِّ الأرضِ لا ترحلُ.

لا تنسوا أسماءَ الأماكنِ.

احفظوا أسماءَ الحقولِ، وأسماءَ الينابيعِ، وأسماءَ الأشجارِ الكبيرةِ، وأسماءَ الطرقاتِ القديمةِ، وأسماءَ الأغاني التي كانتِ الجدّاتُ يُغنّينها في مواسمِ الحصادِ.

لأنَّ الأرض التي تُنسى تفاصيلُها الصغيرةُ تُصبحُ عُرضةً للضياعِ.

علِّموا أطفالكُم أنَّ الزعتر ليس مجرّد نبتةٍ، بل هو يُشبِهُنا: جذورٌ عميقةٌ، ورائحةٌ لا تُمحى حتّى لو احترقَ.

علِّموهُم أنَّ زهرَ الليمونِ ليس مجرّدَ عطرٍ عابرٍ، بل هو هواءُ الأجدادِ الذينَ زرعوا هذه الأشجارَ قبل أن يرحلوا.

لا تقولوا عن الزيتونِ إنّهُ مجرّدُ شجرةٍ، بل قولوا: هذهِ شجرةٌ حملت دموع الأمهاتِ وعرق الآباءِ، وصبرت حين صبروا، وبقيت حين نزفوا.

علِّموا أطفالكم أنَّ غصن الزيتونِ ليس فقط رمز سلامٍ، بل هو شهادةُ ولادةٍ لنا على هذهِ الأرضِ، شهادةُ أنّنا كُنّا هنا، وما زلنا.

الماءُ في وِديانِنا ليس مجرّد ماءٍ، بل هو الكلامُ الذي قالتهُ الأرضُ في السّرِّ، وحملتهُ المياهُ إلى البحر، حتّى تحكيه للريحِ، وحتّى تُعيدَ الريحُ حكايتهُ إلينا كلّما اشتقنا.

الماءُ في وادي القرن يعرفُ خطايَ كما يعرفُ خطواتِ أمي وجدّتي، والماءُ في وادي كركرة يحفظُ صوتي حين كنتُ أُغنّي وأنا أجمعُ الورد والدِفْلَى على ضفافهِ.

كُونوا مثل الدِفْلَى ، تنبُتُ على الحافّةِ بين الماءِ والحجرِ، لا تخافوا الفيضان ولا تخافوا الجفاف.

كونوا مثل الصّخرِ، ثابتين حتّى لو ضربتهم العواصفُ ألف مرّةٍ.

كونوا مثل الزعترِ، تنكسِرُ الأغصانُ، لكنَّ الرائحة تبقى حتّى لو اختفى كلُّ شيءٍ.

وأخيراً، أقولُ لكم:

أنا ندى بنتُ الجليل، بنتُ عشيرة عرب السّمنيّة،

أنا ابنةُ الأرضِ، ولا أخافُ الموت، لأنَّني أعلمُ أنَّ الأرض ستأخذُني في حضنِها، ستُعيدُني إلى الزعترِ والزيتونِ، إلى الماءِ والزّهرِ، إلى النّدى الذي يُبلِّلُ العُشبَ كلَّ صباحٍ.

أنا ندى بنتُ الجليلِ. احملوا وصيّتي وازرعوها مثل شجرةٍ صغيرةٍ، واسقوها بحبِّكم لهذه الأرض، حتّى تكبُرَ في قلوبِكم وتظلَّكم يوماً إذا اشتدَّ الحرُّ واشتدَّ الغيابُ.

سلامي للأرض.

وسلامي لكم.

وسلامي للماءِ والزّهر والزعتر.

وسلامي للسّماءِ فوق الجليل.

وسلامي لفلسطين...

التي لا تموتُ.

ندى



مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

ترابُ فلسطين لا يحتضنُ الخونة!

"حين تخون الوطن، لن تجد تراباً يحنّ عليك يوم موتك؛ ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت." غسان كنفاني. في فلسطين، لا تُقال هذه الجملة ع… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون