عيسى أَحوش ودار بيسان: صوتُ فلسطين الذي لا يمُوتُ

منذ 8 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

حين يُذكرُ اسم "بيسان"، يتبادرُ إلى الذِّهنِ عبقُ الأرض الفلسطينيَّة التي تأبى النِّسيان، وأصالةُ تُراثٍ يمتدُّ من الجليل إلى أقاصي النَّقب. هكذا كان انطباعي الأوَّل حين سمعتُ باسم "دار بيسان للنَّشر والتَّوزيع" في قلب بيروت، فظننتُها شُعلةً تنبضُ بحروف فلسطين، ولم أكن مُخطِئاً.

زُرتُها لأوَّل مرَّةٍ ذات مساءٍ من صيف عام 2000، وكان أيار يُزهرُ بانتصاراته، ويفيضُ بالعزَّة كالنَّهر المتدفِّق من أعماق الذَّاكرة الجماعيَّة.

دخلتُ تلك المكتبة الضخمة، فإذا بي أمام بحرٍ من الكُتُبِ، معظمُها عن فلسطين: تاريخها، جراحها، وصُمودها. وبين هذا المدِّ الثَّقافيِّ الشَّامخ، كان هناك رُبَّانٌ لا يُخطئُ الاتِّجاه: عيسى أَحوش.

رأيتُه أوَّل مرَّةٍ، فإذا به كالسِّندباد الذي جاب بحار الفكر، موسوعةٌ تمشي على قدمين، يحملُ في ذهنه مواقع الكُتُبِ كما يحفظُ الغريبُ دُرُوبَ الوطنِ المسلوبِ. السِّيجارةُ لا تكادُ تنطفئُ بين أصابعهِ، كأنَّها شُعلةُ الفكر التي تأبى الخُمود، وعيناهُ تجُولانِ في المكانِ، وكأنَّهما تُحصيانِ الكُتُب واحداً تلو الآخرِ، كأبٍ يخشى على أطفالهِ من الضَّياعِ.

الحديثُ معهُ رِحلةٌ عبر الأزمنةِ، يسرُدُ الأحداث كأنَّها تجري أمامك، ويستحضرُ التَّفاصيل بدقَّةِ المُؤرِّخِ وروحِ الأديبِ. التقيتُ به في آخرِ شارعِ الحمراءِ، حيثُ يلتقي الفكرُ الحُرُّ بالتمرُّدِ الثَّقافيِّ، وجمعني به اسمٌ بحجم وطنٍ: ناجي العلي، ذلك الشَّهيدُ الذي خطَّ بريشتهِ خريطة الحُلمِ الفلسطينيِّ، وكان نقطة الوصلِ بيني وبين هذا الرَّجلِ الذي يحملُ همَّ القضيَّةِ كما تحملُ الجبالُ صخورها بثباتٍ.

عيسى أَحوش لم يكن مجرَّد ناشرٍ، بل كان مُرابطاً في محرابِ الكلمة، يحرُسُ التُّراث الفلسطينيَّ بحروفٍ من نورٍ، ويُقاومُ النِّسيان بجيوشٍ من الكُتُبِ. لم تكن دارُ بيسان مجرَّد مكتبةٍ أو دار نشرٍ، بل كانت قلعةً صامدةً، ومنارةً تهدي العائدين إلى جادَّة الهُويَّةِ.

الحديثُ عن عيسى أَحوش ودار بيسان هو حديثٌ عن ثورةٍ ثقافيَّةٍ لا تهدأُ، وعن ذاكرةٍ تأبى الانكسار. احتضنت بيروت هذه القلعة كما تحتضنُ الأمُّ أبناءَها، لكنها كانت دوماً امتداداً لجُذُورٍ تضربُ في أرض فلسطين، تلك الأرض التي لم تغب عن رفوفِ بيسان يوماً، كما لم تغب عن قلبِ صاحبِها لحظةً.

فيا بيسانُ، يا مصباح الفكر الحُرِّ، ويا داراً تحرُسُ الحُلم الفلسطينيَّ، لك المجدُ ما بقي الحرفُ سلاحاً، وما بقيتِ الكُتُبُ حِصناً ضدَّ التَّلاشي والنِّسيانِ.

عيسى أَحوش، رُبَّانُ هذه السَّفينة، واجه بأشرعة الحرف رياح التَّهميش والتَّزوير، مُدركاً أنَّ الكلمة الحُرَّة هي السِّلاحُ الأوَّلُ في معركة البقاء. وكما حمل بيسانهُ همَّ فلسطين، حمل أيضاً فكر أنطون سعاده، مُؤمناً بأنَّ المقاومة الثَّقافيَّة حجرُ الأساس لبناءِ وعيٍ لا يُساوِمُ، وبأنَّ النَّهضة هي الطَّريقُ لتحرير الأرض والإنسان.

ستبقى دار بيسان منارةً في ليل الاحتلال، وسيبقى صوتُ عيسى أَحوش صدى لا ينطفئُ، تماماً كما ستبقى فلسطين حكايةً تُكتبُ بحبر العزَّة والتحدِّي، وتأبى أن تندثرَ.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

ترابُ فلسطين لا يحتضنُ الخونة!

"حين تخون الوطن، لن تجد تراباً يحنّ عليك يوم موتك؛ ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت." غسان كنفاني. في فلسطين، لا تُقال هذه الجملة ع… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون