إبراهيم أبو خليل: عاشقُ الوطنِ الذي رَوَى الأرضَ بِدَمِهِ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي مخيم كفربدّا، وُلدَ إبراهيم خالد أبو خليل عام 1967. كان طفلاً مشاكساً، يركضُ بين البيوتِ الطينيّةِ، يطاردُ أحلامه كما يطاردُ الفراشاتِ بين زهورِ الميرمية والزعتر. كانت عيونُ المخيمِ تعرفه، وكان البرتقالُ والليمونُ شهوداً على حكاياته التي همسَ بها في ظلِّ شجرِ التينِ والزيتونِ.
كبرَ إبراهيم، وكبرت معهُ حكاياتُ البطولةِ، فأصبحَ شابّاً يحملُ روحه على راحتيه، كمن يحملُ حفنةً من ترابِ الوطنِ. كان يعرفُ أن المخيمَ ليس بيتاً، بل جرحاً مؤقتاً، وأن العودةَ ليست فكرةً، بل قسماً مكتوباً بحروف الدم.
كانت أمّهُ فاطمة تحضنهُ كما تحضنُ الأرضُ جذورها، أما ندى كلَّم(أم علي)، فهي التي كانت تقرأُ في عينيه ما لا يقولهُ لأحد. كان يزورها منذ طفولته، يحدثها عن الفتياتِ اللواتي وقعنَ في حبِّ روحهِ المتمردةِ، وعن أحلامه التي كانت بحجمِ سماءِ الوطن. كانت ندى تعرفُ أن إبراهيم لم يكن يحلمُ بزفافٍ، بل باستشهادٍ، ولم يكن يعدُّ الأيامَ، بل كان يعدُّ الطلقاتِ التي ستشقُّ طريقه نحو المجد.
في يومِ 5 يناير 1988، في مخيم شاتيلا، سقطَ إبراهيم شهيداً. كان يحملُ بندقيتهُ كما يحملُ الفلاحُ سنبلة قمحٍ، يقاتلُ كما يقاتلُ النسرُ حين يُحاصرُ، لكنه لم يسقط بسهولةٍ. قاومَ حتى آخرِ رصاصةٍ، حتى آخرِ نفسٍ، حتى آخرِ خفقةٍ من قلبه الذي كان مليئاً بحبِّ الأرض. قتله رفاقُ الخندقِ، أولئك الذين ظنوا أنهم إخوةُ السلاحِ، لكن بعض الإخوةِ يطعنون من الخلف.
بكته فاطمة كما تبكي الأرضُ غيابَ المطرِ، وبكته ندى كلَّم(أم علي) كما تبكي الشجرةُ سقوط آخرِ أوراقها في الريحِ. بكاهُ الزعترُ حين لم يجد خطواته تمرُّ فوقه، وبكته الميرميةُ حين لم تسمع صوتهُ يرددُ أناشيد الثورة. بكى البرتقالُ والليمونُ حين لم يعد إبراهيم يسرقُ منه حبةً وهو عائدٌ في المساء، وبكاهُ التينُ والزيتونُ حين رحلَ قبل أن يرى قمرَ العودةِ يشرقُ من جديد.
بكته فاطمة، أمُّ الشهداءِ، حتى لحقت به، وكأن الموتَ لم يحتمل فراقَ قلبها عن قلبه. بكته ندى كلّم، أمُّ عليٍ، حتى لحقت به، وكأن الأرواحَ التي تتآلفُ في الحياةِ، تلتقي لا محالةً في رحابِ الخلودِ.
يا إبراهيم، أيها الفارسُ الذي لم ينحنِ، أيها الفتى الذي كان قلبه أخضرَ كأشجارِ الجليلِ، نم قريرَ العينِ، فقد تركتَ خلفك حكايةً لن تموت، وحبّاً لن يشيخ، وأمّاً تبكيك حتى التقت بك، وأرضاً تحفظُ اسمك كما يحفظُ الشجرُ أسماءَ من سقوها بدمائهم.
رحلَ إبراهيم، لكن صوته لم يرحل، لا تزالُ جدرانُ المخيمِ ترددُ خطواته، ولا تزالُ أشجارُ الزيتونِ تذكرُ يديه وهما تعبثانِ بأوراقها. كأن روحه تطوفُ في الأزقّةِ الضيّقةِ، تقفُ عند الأبوابِ، تنظرُ إلى الأطفالِ الذين يشبهونه حين كان صغيراً، ثم تمضي بخفةِ النسيمِ نحو الغروبِ.
رحلَ إبراهيم، ولحقته فاطمة، أمُّ الشهداءِ، كأن قلبها لم يحتمل بردَ الوحدةِ بعده. ثم لحقت به ندى كلَّم، أمُّ عليٍ، كأن الحياةَ فقدت معناها حين صار اسمه نقشاً في ذاكرةِ من رحلوا.
لم يعد إبراهيم بيننا، لكن البرتقالَ لا يزالُ ينبتُ، والتينَ لا يزالُ ينضجُ، والزيتونَ لا يزالُ يحفظُ سرَّ دمائهِ. أما الميرميةُ والزعترُ، فقد نبتا فوق قبره، كأن الأرضَ ردّت إليه بعضاً من روحه، وكأنها تهمسُ له في الليلِ: نم مطمئناً، فحكايتك لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي أبداً.

أضف تعليق
قواعد المشاركة