أُم غازي… آخرُ زهرةٍ من بلد الشّيخ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي ذلك الركن الضيّق من ذاكرة مخيّم شاتيلا، حيث تختلط رائحة التراب بملح البكاء القديم، تقف ذيبة صالح حسين الطيطي (أم غازي)، امرأة خرجت من جرح فلسطين، ومشت على شوك المنافي، وظلّت تحمل مفاتيح العودة في قلبها حتى آخر نبضة.
وُلدت أم غازي في بلد الشيخ – قضاء حيفا عام 1935. كانت طفلة لا تعرف أن رائحة الزهور التي تجمعها من الحقول المجاورة ستتحوّل يوماً إلى رماد المنافي. كانت تهرب مع رفيقات طفولتها نحو المساحات المفتوحة، تركض بين السنابل والغيم، تجمع باقات صغيرة وتخبّئها في حضنها، كأنها تخبّئ فلسطين نفسها. ظلّت تلك الباقة في يديها حتى آخر العمر، لا يراها أحد، لكنها كانت تضيء روحها كلما تحدّثت عنها.
ثم جاء الزمن الأسود: زمن النكبة، فالشتات… وصولاً إلى المجزرة التي لا تُمحى من الذاكرة: مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982. يومها خسرت(أم غازي) كل شيء تقريباً:
زوجها يونس ماضي يونس،
وأولادها ماضي، محمد، أحمد،
كما خسرت حسين علي العلي، زوج ابنتها وحيدة.
لم يبقَ لها سوى قلبٍ لا ينكسر ودمعة لا تجف.
بعد حرب المخيمات عام 1988، كانت (أم غازي) تسكن قرب منزلي في شاتيلا. وكانت تزورني يومياً لتطمئن عليّ. وإذا لم تجدني قد عدت من المدرسة، كانت تنتظرني في دكان يوسف مجذوب (أبو جمال)، تجلس بصمتٍ متعب، تتأمّل الطريق، وتتنهد بنبرة أثقلها الغياب. وما إن تراني حتى يلين وجهها، فتعود إلى بيتها بخطوات مطمئنّة، كأنها أمّ تضع حجراً من القلق عن قلبها.
كانت (أم غازي) جبلاً لا ينهار، وهي صبر أيوب وقد صار امرأة تمشي في أزقة مخيم شاتيلا، وهي أمّ الشهداء التي حملت أوجاعها وحدها، دون أن تنحني.
كلما جلست معي، كانت تعود إلى حكايات الطفولة:
إلى بلد الشيخ-قضاء حيفا…
إلى الينابيع…
إلى الزهور التي كانت تقطفها وتخبّئها لأمّها…
إلى ضحكةٍ لم ينجُ منها سوى الصدى.
كانت تحنّ إلى فلسطين كمن يحنّ إلى أمّ ما زالت تنتظر خلف الباب.
وكان حلم العودة يزور عينيها كل ليلة، فتبتسم بحياء، ثم تعود إلى صمتها الطويل.
لكنّ العودة لم تأتِ.
ورحلت (أم غازي) عام 1998 في مخيم شاتيلا، وقد ظلّ حلمها معلّقاً في السماء، كطائرٍ ورديّ لم يجد طريقه إليها.
في يومها الأخير، شيّعناها إلى مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية عند مستديرة شاتيلا.
كانت السماء رمادية، كأنها تشارك المخيّم حزنه.
ومضينا خلف نعشها إلى مثواها الأخير، كأننا نودّع أمّاً ثانية، أمّاً حملت فلسطين في قلبها، وحملت المخيّم على كتفيها، وظلت واقفة رغم السقوط الكبير.
رحلت أم غازي…
لكن ظلّها ما زال يسير في أزقة المخيّم،
وصوتها ما زال يرتجف في الحنين،
وتلك الزهور التي كانت تجمعها طفلةً في بلد الشيخ
لا تزال تتفتّح في ذاكرتنا
كلما ذكرناها.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة