باسل الأعرج… حين تصنعُ الأُمُّ بوصلة المُقاومةِ الأُولى
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي واحدة من أكثر الشهادات كثافةً وامتلاءً بالمعنى، كتب الشهيد باسل الأعرج: «إنّ أمي قد حبّبتني بالنبيّ المقاتل أكثر من النبيّ المسالم، وأورثتني المصاب بالحسين عبر حليبها عن أمّها عن جدتها عن أجدادها…». لم يكن هذا القول مجرد عبارة عاطفية يودّع بها الأعرج نفسه أو جمهوره؛ بل كان مفتاحاً لفهم المسار الذي اختطه لنفسه، ورسالة حول الدور الذي تلعبه الذاكرة الشعبية في صياغة الوعي الفلسطيني.
حين تحدّث باسل الأعرج عن «المصاب بالحسين» كان يشير إلى ما يتجاوز الطقس الديني؛ كان يتحدث عن سردية الظلم والحق، عن تلك اللحظة التاريخية التي تحوّلت إلى رمزٍ يُلهم المظلومين في كل عصر. وفي بيته كما في بيوت كثيرة، لم يكن هذا الإرث مجرّد حكاية تُقصّ، بل كان حالة شعورية تُنقل عبر الأجيال، وتصوغ موقفاً أخلاقياً ثابتاً: رفض الذلّ.
هذه الفكرة تتجسّد في الشعـار الذي ختم به باسل الأعرج عبارته: «هيهات منّا الذلّة». شعارٌ تحوّل من صرخة تاريخية إلى مبدأ ينظّم حياة أجيالٍ من الفلسطينيين، ومن بينهم باسل الذي اختار طريقه عن إدراك لا عن اندفاع.
لم يكن باسل الأعرج مجرّد مثقفٍ يكتب، ولا مجرد ناشطٍ يجادل. كان نموذجاً نادراً لمن يرى أن المعرفة لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالفعل. ولذلك أطلق عليه كثيرون لقب «المثقف المشتبك»؛ ذلك الذي يجمع بين القراءة العميقة والبحث التاريخي من جهة، والعمل الميداني من جهة أخرى.
في كتاباته ومحاضراته، كان يفتّش في تاريخ الثورات، ويعيد قراءة التجارب، ويقدّم فهماً نقدياً لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية. لكن الأهم أنه لم يفصل يوماً بين الفكر والواقع، ولا بين ما يقوله وما يفعله.
ربما أكثر ما يلفت في كلمات باسل هو ذلك الاعتراف الصريح بدور الأم. فهي ليست مجرد راعية للأسرة أو ناقلة للتقاليد، بل هي صانعة وعي. ففي بيتٍ صغير حيث يتناقل الناس روايات البطولة والمعاناة، تنشأ القيم الأولى: العزة، الكرامة، والرفض. في تلك اللحظة الأولى يتشكّل الجيل الذي يحمل القضية كما يحمل اسمه.
لم تكن والدةُ باسل وحدها من تفعل ذلك؛ إنها صورة لآلافِ النساءِ الفلسطينيات اللواتي حملن الذاكرة في قلوبهن، وورَّثنها لأبنائهن كجزءٍ من هويةٍ لا تندثر.
استشهد باسل الأعرج في آذار 2017، لكن حضوره لم يتلاشَ. ظلّت كلماته تتردّد في الفضاء العام، وظلّت سيرته تُقرأ بوصفها نموذجاً لفهم جديد لدور المثقف في زمن الاحتلال. ولعلّ أكثر ما بقي من إرثه هو تلك القدرة على صياغة المعنى وسط الفوضى: أن يكون الإنسان وفياً لما يراه حقاً، ومتمسكاً بكرامته، مهما بلغت كلفة ذلك.
لم تكن كلمات باسل الأعرج مجرّد وصيّة، بل كانت تلخيصاً لمسار طويل من الوعي المتراكم، ومرآةً لبيتٍ فلسطيني بسيط يصنع رجالاً ونساءً ينتمون إلى قضية أكبر منهم. وبين «النبيّ المقاتل» و«المصاب بالحسين» و«هيهات منا الذلّة»، تتشكّل ثلاثيةٌ تختصر حكاية شعبٍ ما زال يصرّ على الحياة بكرامة، وعلى الحلم مهما اشتدّ ظلام الليل.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة