الانتفاضةُ الفلسطينيةُ الأولى: شرارةُ الوعيِ الشعبيِّ ومسارُ الخَيْبَةِ السياسيةِ
ياسر علي
إعلامي وشاعر فلسطينيلكلِّ فلسطينيٍّ ذاكرةٌ مُترسِّخةٌ عن محطّاتِ النضالِ الفلسطينيةِ التي عايشَها أو تفاعلَ معها..
ولكاتبِ هذه السطورِ ذاكرةٌ في بدايةِ تشكّلِ الوعيِ السياسيِّ والنضاليّ، حين كنتُ في الثامنةِ عشرةَ مِن عمري، وبعد سنواتٍ مِن القهرِ في حربِ المخيّماتِ في لبنان (1985–1988)، عادت مشاهدُ العِزّةِ والفخرِ لنا يومَ اندلعتِ الانتفاضةُ الأولى، انتفاضةُ أطفالِ الحجارةِ التي غيّرت مزاجَ العالمِ تجاهَ القضيةِ الفلسطينية.
وهي دليلٌ على أنَّ كلَّ جيلٍ سيَتذكّرُ القضيةَ بطريقتِه؛ فكلّما كادوا يُنجحون في دَفنِ القضيةِ وطمسِ الوعيِ بها، تنطلقُ مرحلةٌ جديدةٌ مِن النضالِ، يكونُ للاحتلالِ دورٌ كبيرٌ فيها لإعادةِ الوعيِ والتمسّكِ بالبلادِ والأرضِ والوطنِ.
انتفاضةُ الحجارةِ
اندلعتِ الانتفاضةُ الفلسطينيةُ الأولى في كانونَ الأول/ديسمبر 1987، حين انفجرت عشراتُ السنينَ مِن القهرِ والاستعمارِ في وجهِ الاحتلالِ الإسرائيليّ. لم تكنِ الانتفاضةُ حدثاً مفاجئاً بقدرِ ما كانت نتيجةً لتراكمٍ طويلٍ مِن الظلمِ: توسّعُ الاستيطانِ، قمعُ الاحتلالِ، غيابُ الأفقِ السياسيّ، وتفاقُمُ الأزمةِ الاقتصاديةِ التي عاشَها الفلسطينيون في الضفةِ وغزّةَ.
وجاءت شرارةُ الانتفاضةِ بعد استشهادِ خمسةِ عمّالٍ فلسطينيين في حادثِ دهسٍ مُتعمَّد في جباليا، لتتحوّلَ الجنازةُ إلى غضبٍ عارمٍ يُشعِلُ الشوارعَ.
تميّزتِ الانتفاضةُ الأولى بأنّها انتفاضةٌ شعبيةٌ شاملةٌ شاركَ فيها الجميعُ: الطلابُ، العمّالُ، النساءُ، النقاباتُ، المساجدُ، واللجانُ الشعبيةُ. وكانت الحجارةُ رمزَها الأبرز؛ إذ واجهَ الأطفالُ والشبابُ جنودَ الاحتلالِ بصُدورٍ عاريةٍ وإرادةٍ لا تنكسرُ.
وكان الاقتصادُ المقاومُ، والإضراباتُ، والمقاطعةُ، وإغلاقُ الشوارعِ مِن أبرزِ أشكالِ العصيانِ المدنيِّ الذي جعل الاحتلالَ يواجهُ مجتمعاً بأكملهِ، لا فصائلَ فقط.
محطّاتٌ مفصليةٌ
* توسّعُ المواجهاتِ مِن قطاعِ غزّةَ إلى مدنِ الضفةِ الغربيةِ كافةً.
* الإضراباتُ الكبرى التي شلّت الاقتصادَ الصهيونيَّ وأظهرت القوةَ الجماعيةَ للفلسطينيين.
* المجازرُ والقتلُ اليوميّ، وذروتُها سياسةُ "تكسيرِ العظامِ" التي اعتمدَها إسحاقُ رابين، إضافةً إلى مجزرةِ الأقصى ونحالين وغيرِهما.
* صعودُ العملِ التطوعيِّ داخلَ المخيماتِ عبر اللجانِ الطبيةِ والتعليميةِ والتموينيةِ.
كما انطلقت بعضُ العملياتِ العسكريةِ المحدودةِ في غزّةَ والضفةِ، منها عملياتُ عمادٍ عقلٍ ثم عملياتُ يحيى عيّاشٍ، وخطفُ الجنودِ.. حتى بلغتِ الانتفاضةُ ذروتَها في عمليةِ الإبعادِ الجماعيّ إلى مرجِ الزهورِ في لبنان، حيث أُبعِدَ 415 فلسطينياً مِن المؤيدين للمقاومةِ في 17 كانونَ الأول/ديسمبر 1992، ومكثوا سنةً كاملةً في مخيّمِ الإبعادِ.
من الوعيِ إلى الخَيْبةِ
أدّتِ الانتفاضةُ الأولى إلى تحوّلاتٍ سياسيةٍ كبيرةٍ أعادت القضيةَ الفلسطينيةَ إلى صدارةِ الاهتمامِ الدوليّ. لكنّ هذه النتيجةَ انتهت إلى اتفاقِ أوسلو كخيبةٍ كبرى؛ إذ شعر كثيرٌ مِن الفلسطينيين بأنّ ثمارَ الانتفاضةِ جرى التفريطُ بها على طاولةِ المفاوضاتِ. فبدلاً مِن التحرّرِ والعودةِ، أسّست أوسلو لمسارٍ سياسيٍّ مقيَّدٍ، كرّس سلطةً بلا سيادةٍ، ورسّخ الاحتلالَ بشكلٍ آخر.
ومع ذلك تبقى الانتفاضةُ الأولى لحظةً تأسيسيةً في الوعيِ الفلسطينيّ: لحظةٌ قال فيها الشعبُ كلُّه إنّ المقاومةَ ليست بندقيةً فقط، بل موقفٌ يوميّ، وحياةٌ كاملةٌ تُبنى على الإصرارِ والكرامةِ.




أضف تعليق
قواعد المشاركة