حين يُنزلون العلم… ولا يستطيعون إنزال الحقيقة
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلماذا الحرب على اللاجئين؟
ولماذا كل هذا الخوف من قضيتهم؟
هل لأنهم وقود الثورة وآخر معاقل الصمود؟
في فجرٍ بارد على مدينةٍ أثقلها الحصار والكاميرات والحواجز، تقدّمت شرطة الاحتلال إلى مقر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – الأونروا – في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة. لم يكن المشهد مجرد إجراء إداري، ولا “خلافاً” بين مؤسسة أممية وسلطة أمر واقع؛ بل كان إعلاناً صريحاً عن معركة من نوع آخر: معركة على الذاكرة، وعلى الرواية، وعلى الوجود نفسه.
إنزال علم الأمم المتحدة ورفع علم الاحتلال فوق مقر الأونروا لم يكن مجرد تبديل للأعلام، بل محاولة لطمس رمزٍ وظيفته أن يذكّر العالم بأن هناك شعباً اقتُلعت جذوره وما يزال واقفاً. وأن تُستهدف الأونروا بهذه الطريقة يعني أن قضية اللاجئين ما زالت الجرح الأكثر إزعاجاً للاحتلال.
لماذا الحرب على اللاجئين؟
لأن اللاجئين، رغم الفقر والمخيمات والخذلان، ما زالوا الشاهد الأكبر على الجريمة الأولى.
وهم الدليل القانوني والإنساني والسياسي على أن شيئاً اسمه “حق العودة” ما زال قائماً، لم يمت ولم يُمحَ من الذاكرة الدولية مهما تغيّرت الخرائط.
الأونروا ليست مؤسسة خدماتية فحسبٍ توزّع الطعام وتدير المدارس؛ إنها السجلّ المفتوح لما جرى عام 1948 وما بعده. وجودها وحده يقول إن هناك شعباً نُكّل به، وقرىً أُزيلت، ومستوطناتٍ بُنيت على أنقاض وطن، وأهلاً ما زالوا ينتظرون.
ولهذا تصبح الحرب على اللاجئين حرباً على الحقيقة قبل أن تكون حرباً على البشر.
لماذا يريدون طمس قضية اللاجئين؟
لأن قضية اللاجئين هي صمام الحقيقة الذي يمنع العالم من تصديق الرواية التي يحاول الاحتلال تثبيتها منذ عقود:
أن الأرض بلا شعب، وأن التاريخ يبدأ من لحظة قيام الدولة، لا من لحظة تهجير الملايين.
وجود اللاجئين يعني أن التاريخ ما يزال مفتوحاً،
وأن العدالة لم تُنجز بعد،
وأن الاستعمار لا يمكن شرعنته مهما طال الزمن.
طمس قضية اللاجئين يعني طمس الذاكرة.
ومحو الذاكرة يعني محو الحق.
ومحو الحق يعني تثبيت الاحتلال كأمرٍ واقع لا بديل عنه.
ولهذا يُستهدف المخيم كما تُستهدف المدينة، وتُشيطن الأونروا كما تُشيطن المقاومة، ويُحاصر التمويل كما يُحاصر الناس… لأن القضية نفسها يجب أن تختفي ليُقال بعدها إن “اللاجئين لم يعودوا موجودين”.
لماذا كل هذا الخوف من اللاجئين؟
لأنهم الكتلة البشرية التي لم تُهزم رغم كل شيء.
اللاجئون ليسوا مجرد أرقام في سجلات الأمم المتحدة؛ إنهم الجيل الذي يحمل الرواية من فمٍ إلى فم، من مفاتيح البيوت القديمة إلى خرائط القرى الممحوة.
الخوف من اللاجئين هو في جوهره خوف من حق العودة…
الحق الذي لا يسقط بالتقادم، والذي بقي حياً رغم كل التسويات والضغوط ومحاولات تحويل القضية إلى “ملف خدماتي”.
الخوف من اللاجئين هو خوف من الوعي،
ومن الذاكرة،
ومن الأجيال التي وُلدت في المنفى لكنها ما زالت تحفظ أسماء القرى والبيارات والآبار.
والأودية والأنهار.
على مدى التاريخ، كان اللاجئون وقود النضال.
من المخيم خرجت أصوات الثقافة والشعر والمقاومة، ومن المخيم خرجت أولى محاولات حماية الهوية من التلاشي.
فالمخيم هو المكان الذي وُلد فيه المفهوم العملي لكلمة “صمود”.
ولهذا يُقاتَل المخيم: لأنه الخزان الذي لا يجف.
وعندما ينهار كل شيء، يبقى المخيم واقفاً.
يبقى اللاجئ متمسكاً بمفتاحٍ وورقة طابو وذاكرةٍ لا يستطيع الاحتلال مصادرتها.
وتبقى الأونروا – رغم كل ما تواجهه – الشاهد الدولي الأخير الذي يرفض أن ينسى.
الحرب على الأونروا… حرب على الحقيقة
إن الحرب على الأونروا هي في حقيقتها حرب على اللاجئ،
والحرب على اللاجئ هي حرب على الهوية،
والحرب على الهوية هي محاولة أخيرة للانتصار على الحقيقة.
لكن الحقيقة التي يحاولون إنزال علمها…
تبقى مرفوعةً في القلوب،
لا تنزلها رافعة،
ولا تمحوها جرافة.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة