معين عبدالغني الجشي… حين يُصابُ الأَرشيفُ بالصَّمتِ

منذ 3 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

كان معين عبدالغني الجشي، أكثر من صديق قديم. كان ذاكرةً تمشي على قدمين، تحمل فلسطين في ثناياها كما يحمل العاشق صورة الحبيبة في جيب قلبه. كنتُ كلما جلستُ إليه، شعرتُ أنني أفتح كتاباً صعب الإغلاق، كتاباً لم تكتبه يدٌ، بل كُتب بالنار، والمجازر، وبالخذلان .

 

في صوته كانت تصحو شوارع شاتيلا القديمة، تلك التي لطالما مشيناها دون أن نعرف أن دماءً كثيرة ستغمرها. كان يحكي عن تفاصيل صغيرة كنا نظنها تافهة، لكنها في روايته تصير عظيمة: زاوية في المخيم كانت ملتقى العشاق، وحجرٌ قرب الحائط كان يجلس عليه الشهيد عدنان الجشي، أخوه، حين يتأمل الغروب. وآخر مرة رآه فيها قبل أن يمضي إلى ميونيخ .

 

كان معين يعرف كل شيء.

يحفظ الأسماء، والتواريخ، والهمسات، والكلمات الأخيرة للشهداء. يعرف من اختبأ تحت أي درج حين بدأت المجزرة، من طرق الباب على جاره في ليلٍ لم يفتح فيه أحد، ومن قال: "لن أغادر المخيم، حتى لو احترق."

 

لكنه في لحظة من لحظات النزيف الطويل، اضطرّ أن يغادر. في العام 1988، وصل إلى جنوب السويد قادماً من غبار حرب المخيمات، من دخان بيروت وجدران شاتيلا التي لم تعد تصلح حتى للذكرى. وصل إلى بلدٍ لا يشبهه، لكنه حمل فلسطين معه، كتفصيلٍ لا يفارقه حتى في الثلج. وفي المنافي الباردة، ظلّ يتحدّث عن شاتيلا كما لو كانت ما تزال قائمة، وكأنّها لم تُقصف، ولم تُغدر، ولم تُحاصر. كان يمشي على أرصفة المدن السويدية وهو يستعيد أسماء الشهداء، ويعدّ وجوه الأحياء الذين غيّبهم الشتات.

 

وحين قابلته أخيراً، لم أجد ذلك الفيض من الذكريات، بل وجدتُ الصمت وقد استقرّ في عينيه، كأنّه يعتذر عن ذاكرةٍ ضاعت في الطريق. كان يضحك لكل سؤال أطرحه عليه، ويكتفي بقول: "الله ولي النعمة والتدبير… الحمد لله." قالها وهو ينظر نحوي كمن يعرف لكنه لا يقول، كمن تعب من الحكاية، وأعطى المفاتيح لصمته. ومع ذلك، حين سألته: "بتعرفني؟" نطقها كما لو أن الزمن لم يمضِ: "الأستاذ."

 

في تلك الكلمة، عادت المخيمات، عاد الدفء، وعاد الخريف الفلسطيني بكامل حزنه. تذكرتُ مجزرة صبرا وشاتيلا، حين سقطت السماء على الأرض ولم يتدخل أحد.

تذكرتُ الحرب الأهلية، وجدران المخيم التي امتلأت بالثقوب لا بالنوافذ، والليالي الطويلة التي عبرناها على ضوء الشموع نعدّ أسماء من رحلوا.

 

معين لم يكن مجرد إنسان،بل كان مكاناً، ذاكرةً، وخزانة أسرار.

وكان مأوىً للقلوب التي أحبتهُ، ثُمّ مضت وتركتهُ يحنُّ لصداها.

هو ابن عم جمال الجشي، وأخ عدنان الذي صار أيقونةً في ذاكرة العمليات. واليوم، كلّ ذلك صار حبيس ضحكة، وعبارة قصيرة يرددها كما لو أنها آخر ما بقي له ليقوله.

 

أحياناً، يُصاب الأرشيف بالصمت. تتوقف الكتب عن الكلام. تفقد الذاكرة مفاتيحها، لكنّ وجع المخيم لا يصمت، ولا ينتهي.

 

فهل هناك ما هو أكثر حزناً من أن ترى التاريخ حيّاً، ثم تراه يبهت شيئاً فشيئاً، دون أن تقدر على منعه من الغياب؟

 

...وها أنا أغادره اليوم، وأعلم في داخلي أنني كنت أودّع شيئاً أعمق من صديق… أودّع الذاكرة التي كانت، والوعي الذي حمل وجعنا كأنه حملٌ شخصيّ. أودّع معين عبدالغني الجشي، لا لأن الموت قد أخذه، بل لأن الذاكرة خانته، وتخلّى عنه التاريخ الذي طالما حمله في قلبه ولسانه.

 

لم يمت معين، لكنه صار غريباً عن حكاياته، عن أسمائه التي كانت تضجّ في صدره.

لم يمت، لكنه فقد خارطة الطريق ولم يبقَ من كلّ ذلك إلا تلك الضحكة الغامضة، وتلك العبارات القليلة التي يرددها كأنها الحبل الأخير بينه وبين ما تبقى من الحياة.

 

يا معين، لو تعلم كم من حكاية بكت في صدري حين رأيتك تنظر إليّ ولا تعرفني، ثم تنطق "الأستاذ" كأنّ الذاكرة تشهق للحظة قبل أن تغيب. لو تعلم كم من فلسطين غابت في غيابك الصامت.

 

وأردتُ أن أخبرك، يا معين، عمّا جرى. عن غزة التي نزفت وما زالت تنزف، عن مدينة أكلها الحصار وأحرقها الصمت، عن مآذن سقطت، وأطفال تُنتشل من تحت الركام دون أن تهتز عروش القادة. أردتُ أن أقول لك إنّ رفاق السلاح، بعضهم، لم يعودوا رفاقاً، بل صاروا حرّاساً لمفاتيح القمع. صاروا أدوات بيد من لا يرى فينا إلا خطراً على سلطته. وأنّ الوطن الذي حلمت به… ما عاد كما كان، ولا كما تمنينا.

 

اللهم يا حافظ الذاكرات، يا من لا يغيب عنك شيء… كن مع معين في غيابه. كن له ذاكرةً حين خانته الذاكرة، وسنداً حين صار وحده في متاهة النسيان. اللهم لا تتركه وحده في هذا الظلّ الثقيل، واجعل له في كلّ لحظةٍ نوراً وسكينة، وفي كلّ غفوةٍ رحمة.

 

اللهم إن لم تعد له الحكاية، فأعد له الطمأنينة. وإن نسِي الوجوه، فلا تجعله ينسى وجهك الكريم. وأطل في عمره بلطفك، وارزقه من العافية ما يخفف وطأة الغياب عنه، وعنّا. آمين.

 

[محمود كلَّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماءِ والهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ. يرى في الكلمةِ امتداداً للصَّوتِ الحُرِّ، وفي المقالِ ساحةً من ساحاتِ النِّضالِ.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

بيان نويهض الحوت تلتحق بشفيق وأنيس... ويصمت صوت الحقيقة

برحيل الدكتورة بيان نويهض الحوت، يُطوى فصلٌ ناصعٌ من تاريخ النضال الفلسطيني الثقافي والفكري. فقدت فلسطين اليوم امرأة كانت في آنٍ و… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير