غزَّة... حين يُكتَبُ التَّاريخُ بدم الشُّهداءِ

منذ 5 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في الركن الجنوبي من خارطة الوجع، هناك مدينة لا تنام؛ ليس لأنها تضجّ بالحياة، بل لأنها مأهولة بالموت المستمر.

غزّة، ذلك الاسم الذي كلّما تلفّظ به التاريخ، سالت من حروفه دماء.

مدينة تعرفها السماء جيداً، وتحفظها الملائكة في سجلات الشهداء.

 

يُولد الأطفال على وقع الانفجارات، ويتعلّمون أبجدية الصبر قبل الحروف.

يُربّتون على رؤوس إخوتهم المتناثرة، ويكملون لعبهم عند أطراف المقبرة، كأنّ شيئاً لم يكن... وكأنّ كلّ شيء كان.

 

غزّة لا تُشبه المدن... بل تُشبه الجبال في صلابتها وهدوئها قبل العاصفة، لكنها أيضاً تتفوّق على الجبال؛ إذ لا جبل يُقصف كلّ يوم ويصمد، إلا غزّة.

إنّها الفكرة التي لا تموت، والصوت الذي لا يخنقه الرماد.

 

أهل غزّة لا يبحثون عن الخلاص في المطارات، بل في آيةٍ تُتلى على الشفاه:

"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ".

هناك، حيث تُقتل الأشجار وتُنسف المآذن، يبقى الإيمان جذعاً لا يُقتلع.

 

شهداؤها ليسوا أرقاماً، بل نجوماً على جبين السماء.

يُبعثون صفوفاً إلى الجنّة، رؤوسهم بأيديهم، وقلوبهم معلّقة بالوعد:

"رَبَّنَا آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا"... فيأتيهم الردّ الإلهي: "صَدَقَ عِبَادِي".

 

ما يحدث في غزّة ليس مقتلةً فحسب، بل امتحانٌ للعالم.

هناك يُغربل الحقّ من الباطل، ويُعرّى وجه النفاق.

هناك تسقط الأقنعة، وتبقى الحقيقة وحدها واقفة، كأنّها قبّة صلبة وسط الحطام.

 

في كل نخلةٍ شهيدة، في كل زيتونةٍ محترقة، في كل طفلٍ بلا ظلّ، هناك رسالة خفيّة:

أن غزّة ليست على هامش الزمان، بل في قلب الوعد؛ في قلب سورة "التين"، في قلب سورة "الزلزلة".

 

وفي نهاية الحكاية، لا يُسدل الستار في غزّة... بل يُسدل على وجوه الأطفال وهم ينامون تحت الركام؛ لا فرق بين وسادةٍ وحجر.

لا تنتهي القصة هنا، لكنها تُكتب كلّ يومٍ بمداد الدم، وتُوقَّع بأسماءٍ صغيرةٍ لا تسعها القبور.

غزّة لا تموت، لكن من فيها يُقتل مرّتين: مرةً بالصاروخ، وأخرى بصمت العالم.

 

تبكي غزّة، ولا تجد من يمسح دمعتها سوى الله...

تئنّ الأرض، وتشهق السماء، وتظلّ الجبال شاهدةً أن من هناك، لا يُشبهون أهل هذا الكوكب.

هم أبناء الضوء؛ يولدون من الظلّ، ويعودون إليه أنبياء بلا نبوّة، وشهداء بلا جنازات.

 

هكذا تبقى غزّة: لا تنكسر، لكنها تنزف.

لا تنهزم، لكنها تتوجّع.

مدينة لا تموت، لكنها تدفع ثمن الحياة... كلّ يوم.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

غزة.. حين انقلب التاريخ من مهبط الرسالات إلى مهبط الطائرات!

في الأزمنة البعيدة، كان الشرق الاوسط  قلب العالم، ونافذة السماء إلى البشر، ومسرح الوحي الذي غيَّر وجه التاريخ. على هذه الأرض مشت… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير