غزّة تحت العاصفةِ… وحدها في مُواجهةِ البردِ والموتِ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي ليلة أخرى من ليالي الشتاء القاسية، لم تكن غزة تنتظر المطر كنعمة، بل كفاجعة جديدة تُضاف إلى سلسلة الألم التي لا تنتهي. العواصف التي ضربت القطاع لم تُسقِط قطرات ماء فحسب، بل كشفت ما تبقّى من خيامٍ ممزقة، وحوّلت الأرصفة الطينية إلى خنادق ألم جديدة تُؤوي آلاف العائلات التي لم يعد لها مأوى سوى قماشٍ مبلّل يتطاير مع أول هبّة ريح.
في المخيمات الممتدة على الرمال، يتشبّث الأطفال بأغطية خفيفة، يحاولون الاحتماء من البرد الذي يتسلل إلى عظامهم. الأمهات يحاولنَ إشعال نار صغيرة تطفئها الريح قبل أن تمنح الدفء، أمّا الشيوخ فقد اكتفوا بالصمت وكأنهم أعلنوا استسلامهم أمام عاصفة تتجاوز قدرتهم على الاحتمال.
في غزة، في هذا المكان الذي تحوّل إلى مرآة قاسية لوجه العالم، تبدو الإنسانية وكأنها قدّمت استقالتها منذ زمن. لا أحد يسأل عن معاناة الذين باتت حياتهم محصورة بين خيمة لا تقي من المطر وسماء لا ترحم. المساعدات شحيحة، والوجوه المتعبة تتكرر، والنداءات تضيع في ضجيج التجاهل العالمي المتعمّد.
وتستمر العاصفة…
تقتلع الخيام، تبلّل الأغطية، وتطفئ ما تبقّى من دفء. وبينما يحاول النازحون جمع ما يمكن إنقاذه، ترتفع أصوات الأطفال بالبكاء، وتغدو الطرقات مسرحاً لمشهد يختلط فيه الوحل بالعجز، والقهر بالمطر.
وفي المقابل، يظهر وجه آخر للحقيقة: وجه الاحتلال المبتهج، الذي يراقب من بعيد مأساة صنعها بيده دون أن يرفّ له جفن. مشهد يبعث على الغضب ويخلّف في القلب ندبة جديدة، وكأن التاريخ يدوّن بفصوله السوداء كل لحظة من هذا الصمت العالمي.
التاريخ لن ينسى، وسيكتب بلا تردّد أن غزة وقفت تحت القصف وتحت المطر وحيدة، تقاوم البرد والعاصفة والظلم… بينما اكتفى العالم بالمشاهدة.
وسيلعن وجه الاحتلال الذي وجد في هذا الدمار سبباً للابتهاج، متجاهلاً أن الشعوب قد تنحني، لكنها لا تموت.
وفي ختام المشهد، تبقى غزة تقاوم وحيدة تحت المطر، ترتجف خيامها الممزقة، ويختنق صوتها في صمت العالم… لكنها رغم الألم وبقاء الإنسانية غائبة، ما زالت تنبض بالحياة التي يأبى القهر أن يطفئها.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة