خالد الحسين... أبو الشهداء حين مات الصَّبرُ ونام مسدسُ المَاكَارُوف في حضرتهِ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي زوايا منزلٍ متواضعٍ في مخيم كفربدا-جنوب لبنان، كانت تعيش روحٌ عظيمة تختبئ خلف الصمت، وتخبئ بين تجاعيد وجهها حكاياتٍ من وجعٍ وفخر، من دموعٍ مكتومة وانتصاراتٍ لا تُروى في الإعلام، بل تُسطر في القلوب.
كان خالد حسين قاسم أبو خليل(أبو محمد)، الرجل الذي لم يكن أباً فقط، بل كان جبلاً صامداً لا تزعزعه العواصف ولا تهزه المِحن.
لم يكن خالد(أبو محمد) رجلاً عادياً. كان أباً لثلاثة شهداء، لكنه لم يكن يوماً ضحية. كان بطلاً بصمته، صلباً ببساطته، عالياً بتواضعه، نبيلاً بألمه.
حين فقد محمود، أول نجومه المضيئة في سماء المقاومة عام 1982، وقف شامخاً أمام النعش، يمسح دمعه كي لا يراه الصغار، ويقول: "بدأ محمود حياته هناك، حيث لا احتلال ولا قهر."
ثم جاء الفقد الأكبر... إبراهيم، زهرة البيت، سقط شهيداً برصاصة غدرٍ في مخيم شاتيلا عام 1988. لم تنكسر روحه، بل ازداد وجهه صلابة، وازداد قلبه رجولة. لم يكن بكاؤه عجزاً، بل صلاة في صمت، وثبات لا يعرفه إلا العظماء.
في كل جنازة، كان خالد يمشي مرفوع الرأس، يسبق الجميع بدعائه: "اللهم تقبَّلهم شهداء، وأعني أن أُكمل الطريق." كان يحمل جبال الجنوب في صدره، ويتميز بتواضعٍ في ملبسه وكلامه، لكن حضوره كان عظيماً.
ومسدس المَاكَارُوف لم يكن يفارقه يوماً. كيفما نظرت إليه، تجد سلاحه معلَّقاً على خصره، كأنه امتدادٌ لجسده، ورمزٌ دائمٌ للجهوزية، ولرجلٍ لم يسِر في دربٍ دون مقاومة.
كان سلاحه شاهداً على سنواتٍ طويلة من الحذر والعزّة، ورفيق دربه حتى اللحظة الأخيرة.
وفي اليوم الأخير من عام 2001، رحل أبو الشهداء كما عاش: بصمتٍ وهيبة. لم يودع أحداً، ولم يطلب شيئاً. فقط أغمض عينيه، وكأن قلبه قد وجد أخيراً الطريق إلى راحته. لم يمت... بل التحق بهم، إلى حيث لا فراق، حيث يعود القلب كاملاً، بلا كسور.
جبال ووديان عين إبل في جنوب لبنان تعرفه جيداً، كما تعرف الخطى الأولى لرجلٍ بدأ مسيرته النضالية في صفوف حركة القوميين العرب، ثم كان من أوائل مقاتلي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، يحمل البندقية والفكرة، ويؤمن بأن الأرض لا تتحرر إلا بأبناءٍ يذوبون فيها عشقاً ودماء.
خالد الحسين( أبو محمد) لم يكن مجرد اسم، بل معنىً من معاني الرجولة النادرة، مدرسةً في الصبر، ووطناً في شكل إنسان.
رحل، لكن صدى خطواته لا يزال يُسمع في المخيم، في كل بيتٍ عرفه، وفي كل مقاومٍ تربى على قصته.
رحل الرجل الصامت، الذي بكته الأرض كما لم تبكِ أحداً من قبل.
رحل، وترك خلفه ميراثاً من الشجاعة والطيبة والشموخ .
هكذا رحل خالد الحسين(أبو محمد)... كما يرحل الكبار دون ضجيج، لكن بصدى لا ينطفئ.
ترك خلفه حكايةً تُروى للأجيال، ومثلاً يُضرب في الشجاعة والصبر والبساطة النبيلة. لم يطلب مجداً، ولم يسعَ إلى لقب، لكن الحياة منحته أرفع الأوسمة: وسام الأبوة المقاومة، وسام أبو الشهداء، ووسام الوطن الساكن في القلب.
في زمنٍ تكثر فيه الوجوه وتقلّ القامات، يبقى خالد الحسين أبو الشهداء واحداً من أولئك الذين يشبهون الأرض التي أنجبتهم: صلبة، صادقة، وممتدة في الذاكرة.
سلامٌ على روحه، وعلى أرواح أبنائه،
وسلامٌ على كل الآباء الذين زرعوا فينا العزَّ،
ورحلوا في صمتٍ... وتركوا لنا البطولة إرثاً لا يُشترى.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة