حين بكى غسان... ونام نزار في تراب فلسطين

منذ 3 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في زوايا الذاكرة المتعبة، يقف ظل نزار بنات شامخاً كجبل الخليل، حنوناً كنسيم الهفوف، غائباً جسداً، حاضراً روحاً لا تنطفئ. وفي محطات الحنين، يتكئ القلب على اسم غسان، الأخ الذي ظل وفيّاً لذكرى أخيه، والصاحب في الدرب والدمعة.

 

كانت الرحلة الأولى في أوائل الثمانينيات، سنة 1984، حين حملت العائلة أحلامها ووجعها الفلسطيني من مدينة الخليل إلى منطقة الهفوف والأحساء شرق السعودية. كان الطريق طويلاً، لكن نزار الصغير لم يكن يرى المسافات، بل كان مشغولاً بالدهشة، يحدّق في النخيل الراكع لصلاة الشمس، وفي الغرباء الذين سيصبحون أهلاً بعد حين.

 

أما غسان، الأكبر سنّاً، فكان أكثر نضجاً، ينظر من نافذة السيارة بصمت، وكأن قلبه يدرك أن هذه الأرض البعيدة ستكون فصلاً من كتاب حياته.

كان يطمئن نزار بكلمة، بابتسامة، بلمسة على الرأس… يرافقه كظلٍّ حنون.

 

في مدرسة تحفيظ القرآن في الهفوف، كان نزار يجلس في الصفوف الأولى، يحب اللغة العربية كأنها وطن جديد، يكتب بخطٍّ أنيق، ويضحك بخجل حين يخطئ في التجويد. وكان هناك أستاذ يمنيّ، يجلّ نزار، ويقول له دائماً: "أنت ابن فلسطين، وفلسطين أمّ اللغة."

 

كان نزار يعشق هذا الأستاذ، ويقول لأخيه غسان: "اليمنيون يشبهوننا يا غسان، يحبون الأرض، ويحترمون الكلمة." ومنذ تلك الأيام، بدأ حبه لليمن ينمو في صمت، حبّاً بلا حدود، ولا مصالح.

 

في أحد الأيام، شبّ حريق في بيت أهل نزار في الهفوف. كانت اللحظات مرعبة، والدخان يعلو، والأم تبكي، وغسان يصرخ بأعلى صوته: "نزار! الكتب!" حتى جاء شاب يمنيّ لا يعرفهم، وأطفأ الحريق.

 

في سنة 1990، حصل غسان ونزار على شريط لحفلة "فرقة العاشقين" في اليمن. كانا يسمعانه في المساء، ونزار يغني بصوت خافت: "اشهد يا عالم علينا وعا بيروت..." يغمض عينيه، ويضع رأسه على الوسادة، ويهمس: "بيروت والخليل يا غسان... قلبي هناك."

 

ضحكهم في تلك الليالي، دموعهم المختبئة في الوسائد، وأرواحهم التي ظلّت مشدودة نحو فلسطين... كلها أشياء لا تموت.

 

في مكتبة البيت، كانت رفوف نزار مليئة بكتب عن تاريخ وعادات وتقاليد اليمن، وكتب طبخ يمنية كان يقرؤها كما يُقرأ الشعر. وكان غسان يضحك ويقول: "وقلبي عند العراق يا نزار... بغداد تشبه الخليل حين تبكي."

 

هكذا كانا: نزار بروحه في اليمن، وغسان بقلبه في العراق، وكلاهما بأجسادهما في السعودية، وبأحلامهما في الخليل.

 

في الهفوف، كانا يركضان بين النخيل،

يصنعان من الطين جنوداً، ويحلمان بغدٍ يُشرق بالحرية.

وفي الخليل، حين يعودان في الصيف، كان نزار يركض نحو بيتهم، يقبّل الباب، ويجلس على عتبة الدار كمن وجد وطناً في الحجارة.

 

في ليلة من ليالي الخليل، جلس نزار مع غسان وقال له: "إن متُّ يا غسان، ادفني هون... بين الزيتون." وها قد صدقت كلماته، ومات في حضن الوطن، مغدوراً لا من الأعداء… بل ممن ادّعوا الأخوّة.

 

نزار لم يمت، بل قُتل... قُتل لأنه قال الحقيقة، لأنه لم يصمت، لأنه حمل روحه على كفّه وقال "لا".

وغسان؟ بقي يحمل صورة أخيه في قلبه، ويحدثه كل ليلة كأن صوته لم ينقطع.

 

غسان... لم يسكن الحزن قلبه فحسب، بل سكنته الرسالة.

جاب طول البلاد وعرضها، حاملاً صورة نزار في قلبه، وقضيته على كتفه، كمن يحمل وطناً لا يُفرّط به.

تعرّض لكل ما هو ممنوع، وتلقى التهديدات من كل اتجاه، لكنه ما استسلم، وما صمت.

 

قالها مراراً:

"لن أصالح على دم نزار... لن أضعف، ولن أساوم."

 

صار صوته منبراً، وصرخته راية.

من مدينة لأخرى، من مؤتمرٍ لندوة، من وقفةٍ احتجاجيةٍ لخبرٍ عابر... كان غسان يطارد الحقيقة، ويواجه الصمت المدجج بالإنكار.

جاب العالم طولاً وعرضاً، لا سائحاً، بل شاهداً، لا يبتغي شهرة، بل عدالة لدم نزار.

وفي كل محطة، كان يردد:

"نزار لم يمت… نزار قُتل، وسأبقى أصرخ حتى يُقال للقاتل: هذا دمٌ لا يُغتفر."

 

في كل زاوية من الخليل، وفي كل ظل نخلة في الهفوف، هناك صوت نزار. في كل كتاب عن اليمن، وفي كل خبر عن العراق، هناك دمعة غسان.

 

لم يكونا مجرد إخوة... كانا ذاكرة، وطناً متنقلاً، وحكاية بدأت في فلسطين، ونُثرت رماداً في المنافي... لكنها لن تنتهي.

 

ما أقسى أن يموت الأخ، لا برصاص عدوّ يُعرَف، بل بأيدٍ تتكلّم لغتك، وتلبس ملامحك، وتدّعي أنك منها. نزار لم يرحل وحده، بل أخذ جزءاً من الخليل، من الهفوف، من دفء الطفولة وضحكة المساء. ومنذ ذلك اليوم، لم تعد الأشياء كما كانت... غسان يمشي بثقل لا يُرى، يحادث صور نزار بصمت، ويضحك أحياناً على نكتة قديمة، ثم يبكي كما لم يبكِ أحد.

 

ذاك الطفل الذي ركض بين النخيل، والذي قال "لا" في وجه الظلم، عاد شهيداً. لكن صوته باقٍ، كأنه دعاء، كأنه قصيدة مكسورة لا تنتهي.

 

ارقد يا نزار... فلم يبقَ فينا إلا الحنين، ولم يبقَ لنا منك إلا وجع لا يُشفى.

لن نخذلك يا شهيدنا!

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

من نيبال إِلى غزّة: حين يُغلِقُ الحاكمُ أُذُنيهِ عن صرخاتِ شعبهِ!

القمع لا يقتل الأفكار، بل يورثها مزيداً من الاشتعال. وكل كلمة مكتومة تتحول جمراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً صغيرة لتتحول ناراً تعصف ب… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير