بعد ستين عاماً.. "ليلة الحنة" تعود إلى مخيمات لبنان
أحمد الحاج
كاتب وصحفي فلسطينيأحمد الحاج – موقع المدن
تصل العروس وفاء ظاهر، بثوبها الأبيض المزيّن بزخارف فلسطينية، إلى سطح منزل واسع في مخيم برج البراجنة، حاملة شمعتين، وأمامها امرأة لم يمنعها سنها المتقدّم من أداء رقصة تقليدية فلسطينية حاملة صينية عليها كتل صغيرة من الحناء. وتحلّق حول العروس صديقاتها، وقد جئن لوداعها، في "ليلة الحنة" أو الحناء، وهي ليلة تسبق ليلة الزفاف بأيام قليلة دون تعيين. تحمل كل واحدة منهنّ شمعة يتمايلن بها، وهنّ يغنّين بعض ما حفظن لهذا اليوم: "يللا نِجبل الحِنّا بمية الهيلِ/ ياريت الحنّا مبارك على هالعيلة/ يللا نِجبل الحنّا بمية الرمان/ ياريت الحنّا مبارك على هالعرسان".
ثوب مطرز بعروق الشجر
لبسن أثواباً فلسطينية مختلفة، ولو ارتدين الثوب الأبيض فقط كالعروس، لذهب الخاطر إلى أن "ليلة الحنة" هذه في مدينة رام الله أو إحدى قراها، لكن الأثواب متنوعة بتنوع منابت الضيوف. وكل غرزة ولون يشيران إلى منطقة ما. فهذا ثوب بلونيه الأخضر والأحمر، قيل إن نابلس أو "دمشق الصغرى" كما كانت تُسمىّ، جاءت به من أختها الكبرى. والثوب المطرز بعروق الشجر هو سمة النساء في مدينة البرتقال يافا. وثوب القدس جمع كل العصور وفيه أثر صليبي وإسلامي على حدّ سواء. وتلك فتاة ترتدي ثوباً يحوي قطبة تلحمية، أي من بيت لحم. أثواب ورثنها من أجدادهن الكنعانيين، فلا تدخل امرأة لتحتفي معهن بليلة الحنة بلباس آخر.
تطل صديقة وقد أحضرت للعروس عرق زيتون ليرافق الشمعتين، ثم تطلق زغرودة " إيويها... بحنة مكة جيت أحنيكي/ إيويها... يا بدر ضاوي والحلا كلو ليكي/ إيويها... ما بتلبق الحنة إلا لإيديكي/ إيويها... يا وفاء زينة العرايس لأحمد أودّيكي". وتنطلق بعدها الأغاني التراثية التي تشيد بأخلاق وجمال العروس وعائلتها، والأسباب التي دعت العريس ليُعجب بها " بالهنا يا إم الهنا يا هنية/ الْتَوَتْ عيني على الشلبية (الجميلة)".
سطح المنزل، أو ميدان الحفل، مزيّن بأدوات وأشكال التراث الفلسطيني، المهباج حاضر، ودلة القهوة، والعلم، والمفاتيح المعلّقة، ورقصات ودبكات مستمدة من تراث فلسطين. حوالى ساعتين، كنّ الفتيات والنساء وحدهن في مساحة فرح لوداع تلك العروس أو "حفلة التوديع" كما كانت تُسمى تاريخياً، حتى ظهر العريس أحمد سليم بلباس فلسطيني تقليدي يعتمر كوفية وعقالاً ويلبس عباءة، برفقة أصحابه، فيستعيد الحفل زخمه، ويصبح العريس شريكاً لعروسته بمضمون الأغاني والزغاريد المقبلة: " يا حنّا يا اخْضر يا لايق عَ كفوفي/ وإنتْ يا عريس يا غالي عَ ضيوفي".
إعادة إحياء التراث
بعد رقصة مشتركة للعروسين، تتقدّم نسوة يحملن صينية الحناء، ويشرعن في مساعدة العريس في رسم الحناء على يدي العروس، على وقع أغنية "سبَّل عيونو وماد إيدو يحنولو/ غزال زغير بالمنديل يلفولو". ثم يضرب العريس بالمهباج، وتُصب القهوة للضيوف. وانتهى الحفل بطعام فلسطيني تقليدي كناية عن منسف، ومسخّن.
تقول المسنة جميلة حسين إن حفل زفافها كان عام 1960، سبقته "ليلة الحنة"، لكن زفاف أخواتها بعد ذلك بأعوام قليلة لم تصاحبه ليلة الحنة، فقد اعتُبر طلاء الأظافر بديلاً عصرياً في ذلك الوقت. خلال العامين الأخيرين عاد الفلسطينيون في لبنان لإحياء تلك الليلة. ويقول العريس أحمد سليم لـ "المدن" إن إحياء تلك الليلة "جزء من نضالنا للإبقاء على هويتنا وعاداتنا الفلسطينية ويستثير الحنين. فمثلاً ارتدائي اللباس الفلسطيني ذكّرني بجدّي وكنت سعيداً جداً".
وحول التكاليف العالية في مجتمع يعاني مادياً يقول أحمد "يمكن الاختصار بتلك التكاليف كما الإضافة. فممكن أن يقتصد في التصاميم التي تزيّن الحفل، ويمكن أن لا يقدّم طعاماً، كما يمكن له أن يتوسع ليصل إلى تقديم هدايا تراثية فلسطينية بسيطة كما يفعل البعض. بالنسبة لي ولزوجتي فضّلنا أن نقتصد بتكاليف حفل الزفاف لصالح "ليلة الحنة"".
هذه الليلة أوجدت فرص عمل عديدة، على رأسها صناعة الفساتين وتأسيس متاجر لبيعها أو تأجيرها، إضافة إلى تصميم حفل تلك الليلة من تجهيزات وغيرها. فاتنة عرابي افتتحت متجراً في بيتها بحارة حريك لتأجير الفساتين التراثية الخاصة بليلة الحنة. وقالت إن المشروع الذي بدأ بسيطاً شهد تطوراً منذ أسسته قبل عام. ولم تكن تتوقع أن يُقبل الناس على استئجار الفساتين التراثية بهذا الزخم.
وتقول إنها كانت في البداية مترددة، لأنها خشيت أن يكون الظاهرة "موضة" لا أكثر. لكن مواجهتها للعرسان الجدد "أثبتت خلاف ذلك، فمسألة الهوية راسخة لديهم جداً، خاصة أن هناك تنوعاً باللباس الفلسطيني التقليدي، وهذا يضمن أن لا يحدث ملل من تكرار الألوان والمطرزات".
قصة وصوت الجدّات
وترى أن الثوب الفلسطيني ليس مجرد لباس بل "هو قصة وصوت الجدّات، وكل غرزة فيه تحكي حكاية مدينة أو قرية". وتشير إلى أن الاهتمام بإنتاج الثوب الفلسطيني ليس حكراً على الفلسطينيين بل هناك الكثير من اللبنانيين واللبنانيات باتوا يصنعونه بسبب زيادة الطلب عليه.
يُرجع الكاتب الفلسطيني المتخصص بالتراث، والمدير العام لمؤسسة العودة الفلسطينية المعنية بإنتاجات فلسطينية، ياسر علي، أسباب العودة لـ "ليلة الحناء" إلى "صعود فكرة حق العودة وتمسك اللاجئين بجذورهم، فبعد اتفاقيات أوسلو، صعدت معها عدة عناصر ثقافية وتراثية، منها كتب القرى الفلسطينية، ومواقع الذاكرة الفلسطينية، والبحث في جذور العائلات الفلسطينية، وانطلقت فكرة المفتاح ورمزيته للعودة، فضلاً عن مؤتمرات حق العودة العالمية".
أضاف "في هذا السياق، انطلق من جديد مع الجيل الجديد تيار واسع مهتم في التراث الفلسطيني، متأسساً على بقايا الناشطين والعاملين في مؤسسة صامد. واستعاد التطريز رونقه وجماليته حتى وصل في تصاميمه إلى المستوى العالمي، وحاول العدو سرقته. وليلة الحنة تندرج في إطار عناصر التراث التي رافقت فكرة التمسك بالجذور واستعادة الأصالة والأمل بحق العودة".
ويرى أن الجديد في الأمر "هو تمسك الجيل الجديد بها، فقد كنا نلاحظ أن من يحفظ الطقوس والأغاني والزفة هم العجائز، أما الآن فقد تخصص بليلة الحنة عدة مجموعات فلسطينية موزعة في المخيمات، تماماً كالمتخصصين بتنظيم الأعراس. وباتت العروس وصديقاتها يسألن عن ليلة الحنة وما فيها من طقوس و زينة ورسم الحنة بطريقة فنية على أيادي ومعاصم الفتيات. بالمقابل، يسأل الشباب عن حمام العريس، فيأتي الحلاق وأصدقاء العريس ليقوموا بالواجب".
ويقول إنهم في مؤسسة العودة لاحظوا انعكاس ليلة الحنة على الطلب "فالثوب التراثي العادي لونه أسود مطرز بالأحمر أو النبيذي. أما أثواب الحنة فهي غالباً بيضاء ومطرزة بعدة ألوان. لذلك صارت أثواب ليلة الحنة مقصودة في الصالات التراثية. أما ثوب العروس، فلكي يكون أصلياً يجب أن يكون تطريزه يدوياً، وتصل أسعاره إلى ألف دولار. لذلك اعتمدت العرائس استئجار هذه البذلة بدلاً من صناعتها التي تستغرق عدة أشهر".
ويشدد على أن "ليلة الحنة" لن تكون "موضة" وتمضي "فلم يحدث سابقاً أن درجت عادة تراثية واندثرت، فهي لا تخترعها الأجيال الجديدة، بل تكتشفها وتعيد إنتاجها. فهي إذن بنت الأرض ولا يمكن أن تندثر طالما أن هذه الأرض موجودة. سيبقى هذا التراث قائماً ويتجدد ويتطور، طالما بقي الفلسطينيون متمسكين بأرضهم وقضيتهم".


أضف تعليق
قواعد المشاركة