حين يُصبحُ الوطنُ قبراً
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلا تحفروا لهم قبراً، فالأرضُ كلُّها قبورُهم، وسماءُ الوطنِ أكفانُهم.
كيف يُدفَنُ مَن صار هو التراب، ومن انصهر في ملامحِ الحقول، ومن صار صوتُه هدير الموج في بحر غزّة، ونبض الزيتون في جبال نابلس، وأنين الحجر في يد طفلٍ يواجهُ الدبّابة بقبضة القلب؟
في غزّة اليوم، الشهداءُ لا يُودَّعون... بل يتناسلون من الرماد.
في كلِّ بيتٍ مهدومٍ يُولَدُ شهيدٌ جديد، وفي كلِّ دمعة أمٍّ تُزهِرُ زهرةٌ من الكرامة، وفي كلِّ جدارٍ متصدّعٍ نقشٌ يقول: "كنّا هنا، وما زلنا."
لا يرحلون، لأنّهم لم يعيشوا لأنفسهم يوماً، بل عاشوا لفلسطين، تلك التي تُولد كلَّ صباحٍ من تحت الركام، مغسولةً بالدم، مُتوَّجةً بالعزّة.
كم من طفلٍ ودّع دُميته ليحمل علماً!
وكم من أمٍّ أمسكت جثمان ابنها فابتسمت، لأنّها عرفت أنّه صار أقرب إلى الله وإلى الوطن معاً.
وكم من بيتٍ احترق، لكنّ صموده صار منارةً تُضيءُ للآخرين طريق العودة، طريق الحريّة.
هُم شهداءُ غزّة، وشهداءُ فلسطين كلِّها، ليسوا أرقاماً في نشراتِ الأخبار، ولا صوراً تتناقلها الشاشات.
هُم معنى الوطنِ حين يُستباح، وصوتُ العدالة حين يُقمع، ووجهُ الإنسانِ حين يُغتالُ النور.
هُم القصيدةُ التي لم يكتبها شاعرٌ بعد.
هُم الذين لم يمتلكوا شيئاً سوى قلوبِهم، فوهبوها للسماء.
سيرقدُ الجلّادُ على عرشِه من دمٍ وزيف، لكنّهم هم الذين سيسكنون في كلِّ شبرٍ من الأرض، كالماءِ في نهر النيل، وكالشمسِ فوق حقول بلادهم.
لن تُطفئَهم قنابلُهم، لأنّ الدم الذي يُسقى بالكرامةِ لا يجفّ، والذاكرةُ التي تُروى بالحبِّ لا تموت.
سلامٌ على أرواحهم...
سلامٌ على أجسادهم التي صارت تراباً خصباً تنبتُ منه الحريّة.
وسلامٌ على وطنٍ ما زال، رغم كلِّ الموت، يكتبُ بالحياة:
"مثلهم، لا يسكنون قبراً..."
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة