غزة… وسام الحياة في زمن الخذلان!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي الركن الصغير من خريطةٍ أنهكها الطغيان، تقف غزة، نازفة القلب، عاريةً إلا من كرامتها، تواجه الإبادة بصدورٍ لم تعرف الانحناء.
هناك في غزة حيث تتساقط البيوت كالأوراق في خريفٍ طويل، يخرج الأطفال من تحت الركام مبتسمين، كأنهم يخبرون العالم أن النصر لا يُقاس بعدد الجثث، بل بعددِ الذين ظلّوا مؤمنين بالحياة رغم الموتِ المحيطِ بهم.
غزة ليست مدينةً عادية؛ إنها صرخة في وجه الصمت، ووصمة عارٍ على جبين الإنسانية المتفرجة. هناك أمٌّ تحمل ابنها الشهيد وتغنّي له، كأنها تُزفّه لا تودّعه. وهناك أبٌ يحفر قبر طفله بيديه، ثم يرفع رأسه إلى السماء، لا ليعاتبها، بل ليشكر الله أنه رزقه شهيداً حرّاً في زمنٍ صار فيه الموت أشرف من العيش تحت الذل.
غزة كم صارت عظيمة وهي محاصرة، وكم صغُر العالم وهو حرّ!
لقد واجه شعبها القنابل بالجوع، والموت بالصبر، والخذلان بالإيمان.
تكسّرت جدران بيوتهم، لكن لم تُكسر إرادتهم. قُطعت عنهم الكهرباء والماء والدواء، لكن لم يُقطع عنهم النور الذي يسكن قلوبهم.
وفي الوقت الذي تآمرت فيه بعض الأنظمة بالصمت، وتواطأت دول العالم بالعمى، خرج صوتٌ من بعيد، من قارة أميركا الجنوبية، يحمل ما تبقّى من ضميرٍ حيّ.
قال رئيس كولومبيا كلمته التي اخترقت جدار الصمت العالمي:
"أنوي تقليد أهالي غزة وسام المناضل الكبير سيمون بوليفار، تقديراً لتضحياتهم وثباتهم في وجه الإبادة الجماعية."
كلماتٌ قليلة، لكنها كانت نبضة حياةٍ وسط بحرٍ من الخذلان.
كلماتٌ أعادت للكرامة معناها، حين أنصف البعيد ما أنكره القريب.
فكم هو مخزٍ أن تأتي شهادة العظمة من هناك من قارة أميركا الجنوبية، لا من هنا، من حيث العروبة والإسلام!
كلماتُ رئيسِ كولومبيا لم تكن مجاملةً سياسية، بل صرخةً أخلاقية تعلن أن غزة تستحق وسام الأرض جميعها، لأنها ناضلت وهي عزلاء، وصمدت وهي جريحة، وأبَت أن تموت إلا شامخة.
غزة اليوم ليست فقط قضية فلسطين، إنها ضميرُ العالم المذبوح.
هي المرآة التي تعكس مدى سقوط الإنسانية حين تصمت أمام الدم الطاهر.
هي القصيدة التي كتبها الشهداء بدمهم، ولم تجد بعدُ من يقرأها بضميرٍ حيّ.
سلامٌ على غزة...
على أرضها التي تعلّمت أن تُزهر رغم الرماد، على نسائها اللواتي أنجبن الرجال من رماد البيوت،
وعلى أطفالها الذين صاروا أيقونة الشجاعة في زمن الجبن.
سلامٌ على المدينة التي هزمت الخوف،
وعلّمتنا أن الكرامة لا تُقاس بالنصر، بل بالصمود.
سلامٌ على غزة... التي تموت واقفة، كي لا نحيا نحن راكعين.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال



أضف تعليق
قواعد المشاركة