يافا: صمود الموج العالي.. رغم الانكسارات

منذ 8 سنوات   شارك:

بثينة حمدان

كاتبة فلسطينية

وقفت عند أعلى نقطة في البلدة القديمة مطلة على الميناء، حيث الصيادون الفلسطينيون. رائحة مطاعم السمك الفلسطينية.. استشعرت ضياع المكان وقرأت نكبته المستمرة، فمئات الصيادين والعائلات مهددة بالرحيل، ووحش المستوطنين المتطرفين يلتصق ببيوت اليافاويين، ومع هذا ما زالت المنارة القديمة تتوسط الميناء.. أهلها يضحكون ويحاولون زراعة البرتقال.. لكن، دون دعم فلسطيني وعربي كيف للرحلة أن تكتمل إلى يافا؟

«أذكر يوما كنت بيافا.. خبرني خبر عن يافا.. يا طيب العود إلى يافا، وملأنا الضفة اصدافاً يا أحلى الأيام بيافا، كنا والريح تهب تقول: سنرجع يا يافا». أغنية الأخوين رحباني، وهي حكاية أي رحلة إلى يافا. ولا أخفيكم أن سلمى ابنتي (5 سنوات) جنت حين علمت بذهابي إلى يافا، وقالت بحزن: «دايما بتوعديني نروح ع بحر يافا..». لكننا كفلسطينيين ممنوعون من الوصول إليها بسياراتنا ولا حتى القيادة فيها، كما كان علينا اجتياز الحاجز سيراً على الأقدام، أما تكلفة استئجار سيارة صغيرة فتبدأ بثلاثمئة دولار، أخيراً أقلتنا صديقة مقدسية. وقف جسد سلمى النحيل في البحر ورقص كثيراً. أما المضحك فكان حين سألت صياداً اسرائيلياً عن السمك الذي بين يديه، أخبرها مرة واثنتين وثلاثا بلغة متصاعدة، أنه لا يجيد العربية لكنها كانت تنتقل من نقطة الى نقطة في تساؤلاتها عن السمك.
انتبهت فركضت إليها وأوضحت لها أنه لا يتحدث العربية، فطلبت مني الحديث معه بالانكليزية فقلت لها: «إنه لا يفهم العربية ولا الانكليزية.. ومن الصعب التفاهم معه بأي اللغة».حولت انتباهها لجمع الأصداف وحين عدنا وضعناه بآنية زجاجية..

علاقات حذرة

يعيش المحامي أمير بدران وعائلته المكونة من أربعة أفراد وقربهم جيران يهود، لكن العلاقات إجمالاً في المدينة بين طرف غاصب وآخر مغصوب ليست طبيعية. هي علاقات إجبارية بحكم اختلاطهم في العمل والتعليم العالي ومدرسة واحدة مختلطة وحضانة ثنائية اللغة افتتحت مؤخراً. العلاقات هي للعمل والتعامل اليومي. لكن ابنة أمير، البالغة ثلاثة عشر عاماً، فهمت العلاقة وشكلها لاسيما بعد مشاركتها في الحملة الانتخابية الشرسة التي خاضها والدها ليصبح عضواً في مجلس بلدي «تل ابيب-يافا»، لكن اللغة العربية، وهي أساس الثقافة، تتأثر وتتداخل فيها العبرية.

وتبقى العائلة اليافوية الأصيلة تعيش هبوطاً اضطرارياً طوال الوقت ما بين الحاضر المسلوب وماض كان لهم.

تجميد الميناء.. ثلاثة آلاف عام

وقفنا قرب الميناء، هنا اشار الدكتور هشام ابو عمارة، وهو طبيب أسنان ترك عيادته ومرضاه ليكون مع فريق القبس مشكوراً وفي الغد يسافر الى مؤتمر دولي لأطباء الاسنان، أشار إلى مساحة هي كراج للسيارات كانت سابقاً جزءًا من الشاطئ لعبوا فيها كثيراً وأضاعوا لآلئهم، لكن تم ردمه.

تقدمنا لنرى بركسات ضخمة من الحديد تضم سفناً قديمة جداً ومعدات الصيد، وكلها صالحة لنبش الذاكرة، فنتخيل أصحابها اليافاويين متعرقين برائحة البرتقال. اقتربنا لنشاهد مجموعة من قوارب الصيد الصغيرة والمتوسطة الراسية، وهي ذات الملكية الخاصة، وهناك مخازن ضخمة لصناديق البرتقال تحولت اليوم إلى مطاعم ومتاجر، ونجح فلسطينيو الـ48 بأن يكون لهم جزء من هذه المتاجر.
كان الميناء منفذ فلسطين إلى العالم، وهذه المنارة العالية شاهدة عليه، لكن اسرائيل منعت عام 1965 السفن الكبيرة من الرسو فيه، لتتجمد حركة أحد أقدم موانئ فلسطين، وعمره ثلاثة آلاف عام. ومع ذلك يوجد اليوم 250 صيادا فلسطينيا مقابل %10 نسبة الصيادين الاسرائيليين من الاجمالي، وتقوم الحكومة الاسرائيلية بتضييق مساحات الصيد وتسجيل المخالفات، ورغم أنهم دفعوا ما عليهم من مستحقات، فإن إدارة الميناء رفعت قضية ضدهم مدعية عكس ذلك (طمع)!

البرتقال.. اللغة الرسمية

قبل اليوم كان البرتقال هو رائحة يافا الرسمية. اليوم صار مجرد كوب عصير عالماشي للسياح. فبعد تجميد الميناء، تجمد كل ما أحياه تصدير البرتقال. في الماضي كانت المدينة تصدر ما بين 15 إلى 20 مليون صندوق برتقال سنوياً من بيارات يافا ومدن فلسطينية أخرى، وهذا يعني أنها مكان للمزارعين والعتالين والصيادين والتجار، بل كانت يافا تستحوذ على %60 من خزانة فلسطين، فيها شركات التصدير والاستيراد والمصارف وشركات النقل، وهي مدينة صناعية، فيها مصانع سكب الحديد والزجاج والثلج والسجائر والمنسوجات والحلويات والخشب، ومدينة سياحية فيها السياح والحجاج، ففيها الميناء الرئيسي لاستقبال كل القادمين، لذا بنيت الفنادق والمطاعم وتطورت شبكة الطرق والمواصلات.
وفي عام 1948 حين احتلت اسرائيل المكان، كانت يافا مدينة تحتوي كل شيء، من بنية تحتية وفوقية (إن صح التعبير)، وحتى سكة حديد يافا ــ القدس، لكن اسرائيل أرادت أن تمحو كل هذا!

الموج العالي.. رغم الانكسارات

تعرضت يافا لقصف عنيف بالقنابل واجتياح عسكري دفع بأهلها الى الهجرة قسراً على أمل العودة بعد أسبوع أو اثنين، ورغم كل محاولات طمس ملامحها فإنها متمسكة بعروبتها، فأعاد سكانها رفع مآذنها الستة، الذين أوقفهم الاحتلال الاسرائيلي عام النكبة. ظلوا رغم الانكسارات مثل الموج العالي، الذي ما أن يصل الشط حتى يصبح لطيفاً، تعلو أمواجهم كثيراً إحياء لكل المناسبات الوطنية، وفي السبعينات رفعوا علم فلسطين لأول مرة.
اليوم تنشر اسرائيل أعلامها بكل المدن التي استولت عليها ومنها يافا، لكن حين يرفع فلسطينيو الــ48 علم فلسطين تكتب الصحافة الاسرائيلية أنها أعلام «أشف»، أي منظمة التحرير الفلسطينية وليس فلسطين!
اطبع في مصر ولبنان واقرأ في يافا

قال لنا الدكتور هشام ما درج قوله: «اطبع كتابا في مصر وفي بيروت. واقرأه في يافا»، في إشارة إلى الدور الثقافي للمدينة. ففي الأربعينات صدر فيها العديد من المجلات الأسبوعية والصحف العربية، مثل صحيفتي الدفاع وفلسطين اليوم، وفيها المكتبة العامة ودور السينما والمسرح والنوادي الرياضية والثقافية. وفي شارع ستين تنتشر المقاهي والمراكز الثقافية، فيها غنت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.. لقد تجمد كل هذا مع الحرب وتجميد الميناء.

الاستيطان.. بركان كامن

ليس فقط على «اليافي» أن يعيش مع الاسرائيلي الذي سلب أرضه، ولا يقتصر الاستيطان الصهيوني على الضفة أو غزة، بل يطاول يافا أيضاً، فقد مررنا مع الدكتور هشام بأحياء كثيرة، فهنا في قلب حي العجمي قرب دير الموارنة هناك مشروع لبناء 63 وحدة استيطانية لمتدينين متطرفين وقام مليونير يهودي بشراء الارض من الدولة، في منطقة تعايش بين يهود وفلسطينيين، ويهدد المخطط بهدم ثلاثة عشر منزلاً، وقد رفضت كل طلبات الفلسطينيين لشراء منازل في الوحدات الاستيطانية، مما ينذر ببركان سينفجر في أي لحظة بين اليهود والفلسطينيين. وأخبرنا عبد القادر السطل أن الوحدات ستبنى على أوقاف مسيحية، لذا فقد توجهوا الى الفاتيكان كونه لا يسمح ببيع مواقع مسيحية إلا للمسيحيين.

400 عائلة مهددة

إن معظم الصامدين في يافا بعد النكبة حُجزوا في منطقة تم تسييجها بالأسلاك ومنعوا من الخروج منها، ولاحقاً اخترعت الحكومة الاسرائيلية قانونا للمستأجر واعتبرت المنازل الكائنة داخل الأسلاك ملكاً للدولة وتم تأجيرها للصامدين.. وعاشت عائلة يهودية أو اثنتان مع كل عائلة فلسطينية. ويشير القانون- كما أخبرنا المحامي أمير بدران- الى أن عقد الايجار يسقط بعد مرور ثلاثة أجيال، وهذا يعني أن 400 عائلة فلسطينية مهددة بالترحيل!

«رابطة شؤون العرب في يافا»

لقد مر ثلاثون عاماً على النكبة من دون أي نشاط لفلسطينيي يافا، أي أن هناك جيلا كاملا يبدو انه غير واع لقضيته، إلى أن تأسست عام 1979 بعد أول دفعة من الخريجين الجامعيين «رابطة شؤون العرب في يافا» والتي يترأسها عمر سكسك. دخلنا متجر عمر والذي علق لافتة فوق مكتبه «لا تنازل لا توطين..الشعب راجع فلسطين».أراد سكانها الحفاظ على ما تبقى من الأرض والهوية واللغة، وانتقلت المدينة من الخوف من التطرق للسياسة وحتى من تسمية أبنائهم بأسماء دينية مثل محمد، إلى مرحلة رفع علم فلسطين وتداول قصص غسان كنفاني على الملأ.
بدأت الرابطة عملها بعد أن هدم الاسرائيليون 3126 منزلاً حتى عام 1975وذلك لمنع عودة أصحابها اللاجئين ومحو تاريخ المدينة.. هدم مع بقاء الركام والغبار على حاله! فجمعت الرابطة أبناء يافا لتنظيف الركام، واستمرت النشاطات بمحاضرات عن فلسطين التاريخية والقضية واللغة والثقافة العربية، مع إحياء الأمسيات الأدبية وافتتاح روضات فلسطينية، واقامة مدرسة فلسطينية بمنهاج غير اسرائيلي، لكنها لم تستمر نظرا لشح الموارد. كما رممت 270 بيتاً كانت مهددة بالهدم بحجة أنها غير صالحة للسكن.

اليوم يحلم اليافاويون بامتلاك منزل العمر، فمعظمهم مستأجرون و%50 منهم تحت خط الفقر، بل إن المنزل بمساحة مئة متر يصل ثمنه إلى مليوني شيكل (5 ملايين دولار)، واذا اقتربت من الميناء يصبح خمسة ملايين شيكل وأكثر. ومع ذلك فإن القضية التي رفعها عمر امام المحاكم الاسرائيلية لاسترداد ستين دونماً صادرتها الحكومة الاسرائيلية من عائلته، كان نتيجتها التعويض بـ50 دولاراً عن كل دونم فقط! وقد رفضها رفضا مطلقاً.

يافا ــ الكويت.. حضور راسخ وجوائز للإبداع

هذا ليس عنواناً لطريق، بل لعلاقات ربطت بين يافا والكويت عبر عائلات يافوية، منها رجل الأعمال طلال أبو غزالة، الذي خرج من يافا ابان النكبة، وهو في العاشرة من عمره، وأسس مجموعة طلال أبو غزالة الدولية بفروعها الثمانين في أنحاء العالم. وقدم أبو غزالة للكويت الكثير، فحصل على الجائزة العربية للابداع الإعلامي من سمو الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح رئيس الوزراء عام 2012، كما حصل على دروع شكر من الشيخة انتصار الصباح، والعديد من المؤسسات الكويتية.

أما خيري الدين أبو الجبين (مواليد يافا 1924)، الذي هاجر وعائلته ابان النكبة إلى الكويت، وهناك عمل مدرساً، ومنح الجنسية الكويتية، كونه قدم خدمات جليلة للبلاد، فهو رياضي ساهم في تأسيس الاتحاد الرياضي الكويتي، والعديد من الأندية الرياضية، كما ساهم في المسيرة التعليمية في البلاد، وعمل في شركة الكهرباء مع بداية النهضة واستقلال الكويت، فساهم في إنشاء مكاتب تحصيل ثمن استهلاك الكهرباء.

 

 

المصدر: صحيفة القبس

مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة "Gaza Writes Back"

  !israel is a piece of shit and they know ittwitter.com/ThisIsGaZa/status/595385208385449985/photo/1 




تغريدة "عاصم النبيه- غزة"

 عندك القسام وبتأيد داعش؟ روح استغفر ربك يا زلمة.. #غزةtwitter.com/AsemAlnabeh/status/595507704338186240
 




تغريدة "أحمد بن راشد بن سعيد"

القاهرة تنتفض ضد قرار تقسيم #فلسطين عام 1947.كان زمان!لكن تظل #فلسطين_قضيتناtwitter.com/LoveLiberty/status/594548013504307200/photo/1




تغريدة "Joe Catron"

 Take a moment to thank "@MsLaurynHill" for cancelling her concert in occupied Palestinetwitter.com/jncatron/status/595337215695192064/photo/1




تغريدة "Dr. Ramy Abdu"

 المغنية الأمريكية المشهورة لورين هيل تلغي حفلها الفني في "إسرائيل" بعد حملة واسعة لنشطاء حركة المقاطعة.twitter.com/RamAbdu/status/595530542910742528




تغريدة "النائب جمال الخضري"

في #غزة يقهرون الإعاقة ويلعبون الكرة الطائرة أطرافهم بترت اثناء الحرب على غزة لا يأس ولكن عزيمة وصمود لهم التحية.twitter.com/jamalkhoudary/status/595520655858147328





 

حسام شاكر

الإبداع في ذروته .. رفعت العرعير مثالاً

أيُّ إبداعٍ يُضاهي أن تُنسَج القصيدة المعبِّرةُ من نزفِ شاعرها أو أن تصير الكلمات المنقوشة بالتضحيات العزيزة محفوظاتٍ مُعولَمة في … تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    لاعب خط الوسط الأردني محمود مرضي يرفع قمصيه كاتباً "هي قضية الشرفاء" ، بعد تسجيل هدف لمنتخبه ضد ماليزيا.
    لاعب خط الوسط الأردني محمود مرضي يرفع قمصيه كاتباً "هي قضية الشرفاء" ، بعد تسجيل هدف لمنتخبه ضد ماليزيا.