النكبة شهادات لا تنتهي

أبو خليل: أمنيتي أن أدفن في لوبية ولا تنازل عن الحق التاريخي

منذ 10 سنوات   شارك:

عــ48ـرب | توفيق عبد الفتاح: 20 كيلومتراً هي المسافة الفاصلة بين لوبية المهجرة ودير حنا، لكن تمر بينهما طريق مرة بمرارة ذل التهجير وهوان الاقتلاع، وتقع الأولى قرب مفترق مسكنة على طريق الناصرة طبرية. أما الثانية فتبعد شمالا بضع كيلو مترات، و تترنح بينهما عائلة جودي المنكوبة، وتتلوى ألما وحنينا وغضب، لأن الوصول إليها تعذر وطال مدة 66 عاما وأكثر، وذلك بعد دهر من الوجع والفاجعة الإنسانية من الاقتلاع والتشريد وهول النكبة. مرت بينهما محطات ترسم حكايات التهجير ووجع الشتات ونار الغربة، من علب الصفيح والموت في اليرموك من سوريا حتى البقعة والوحدات في الأردن، وعين الحلوة وغيرها من مخيمات اللجوء التي تحولت إلى أوعية للقهر والذل والملاحقة.

لوبية المهجرة التي تستقبل غداً الثلاثاء مسيرة العودة التقليدية، يجمع أهلها كما كل اللاجئين في الداخل والخارج، حنين وحكاية واحدة كما هو الجرح النازف والوجع المؤبد. عائلة جودي المهجرة في الداخل من قرية لوبية، وهي مقيمة في بلدة دير حنا في الجليل، كعائلة حجو وغيرها من العائلات التي هجرت بالداخل.

جودي: بقي أمل وحيد أن أدفن هنا ليرث حفادي الذاكرة..

وصلنا لوبية قبل أسبوعين من موعد مسيرة العودة السنوية المقررة في لوبية، دخلنا "البلدة"، وتجولنا بين المعالم الشاهدة على الجرح.

بعد أن تجاوزنا مفترق مسكنة مسافة كيلومترين باتجاه طبرية، انعطفنا يساراً حيث مستوطنة "لافي" المشتق اسمها من اسم لوبية، والمقامة على أراضيها. انعطفنا يساراً مرة أخرى لنعبر من تحت الجسر المؤدي إلى يمين الشارع الرئيس حيث تقع البلدة على مرتفع يحيطها طبيعة لا زالت تحمل بعض الأطلال و كل الملامح الفلسطينية رغم كل المحاولات لعبرنة المكان.

استقبلتنا هناك عائلة جودي وهي جالسة على مقاعد أعدتها ما تسمى بــ"دائرة أراضي إسرائيل" للمتنزهين، فوجدنا الحاج خليل جودي وعائلته، وقد شارف على الثمانين من العمر، يستقبلنا ببسمته الوديعة وبسماحة ووداعة الأطفال، حيث فاض به مر الحديث عن التاريخ والحنين ومر الزمن ومعاني المكان.

أما زوجته أم خليل، وبحنينها المتأجج، فقد أخذت تشير بيدها لجهة الشرق، وتؤكد لنا وبحسرة الطفولة: هناك بيت خالتي عيشة، أذكر ذلك وكأنه الآن. وتروي: كنت آتي إليها لألعب مع أبنائها بأمان الطفولة وبراءتهم، وهناك البير الذي شربنا منه، وكانت ترد عليه المواشي، ويجلس الرعاة بعد عودتهم من المراعي، ولا زالت تتردد في مسامعي أصواتهم وملامحهم ودواوينهم وطعامهم ولحن النايات. وهنا كانت البيادر، وكانت مواسم الفرح والأعراس تجمع المحاصيل والخيرات في أجواء من الألفة والمحبة والتعاون".

وتشير أم خليل بيدها مرة أخرى، وتقف فوق جرن مقعر ومحفور في الصخر بشكل دائري تجاسر على التهويد ليفند الرواية الصهيونية. وتؤكد بحنين ودمع منحبس يغالب عينيها: "كنا هنا ندق الزيتون المرصوص، ونصنع الزيت... كانت بلد الأمان و الخيرات، نعيش على البساطة بكل الأمان والاطمئنان لا نخشى شيئًا، لكني لن أنسى الكابوس الذي يلاحقنا حتى اليوم عندما تأتي الذئاب تهاجم وتقتل، وتدب الرعب بالكبير والصغير، وبين ليلة وضحاها تتحول إلى ملاحق من دون ذنب... لا بيت ولا بلد بلا مأوى، وطفل ملاحق بالخوف والرعب والقتل، وأذكر ولا أنسى تلك اللحظات والأيام من الرعب والخوف والتشريد".

 

وتابعت الحاجة: "أذكر أننا بعد أن سمعنا عن جرائم اليهود في القرى المجاورة قررنا الهروب بحثًا عن الأمان، وأخذنا ما طالت أيدينا تحت الرعب، وبضمنه قليل من الفراش حمّل على الدواب، وكنت حريصة أن اخبئ لعبتي الصغيرة، وهي صناعة يدوية، وأحرص عليها وكأنها المصير. توجهنا شمالاً باتجاه عيلبون على أمل العودة بعد أيام، حيث سرنا في الليالي في الجبال وسط الرعب والذهول، وتوقفنا لنبيت ليلة واحدة في "نمرين" لا نعرف ما يخبئ لنا القدر. وفي اليوم التالي واصلنا المسير إلى عيلبون حيث بتنا ليلة أخرى في كروم الزيتون هناك، وبعدها استقرينا مدة سنة في وادي سلامة مع مواشينا، إلا أن اليهود ومتعاونين عربًا من هناك نهبوا واستولوا على مواشينا بالكامل حيث لم يعد لدينا بعدها أي ملك أو وسائل العيش، فقررنا الاستقرار في دير حنا حيث استقبلنا أهلها ولا زلنا هناك حتى اليوم، ونحظى باحترام الجميع. لكن أقول لك يا ابني، رغم كل العلاقات الطيبة والاحترام والأمان من الناس هناك، لا زلت أشعر بالغربة والحسرة، واشتاق لبلدي، وأشعر كل يوم بالغصة وبآلام لا يمكن وصفها، لكني عشت مؤمنة وسأموت مؤمنة بأنه لن يضيع حق ولن يدوم ظلم".

وأشارت الحاجة إلى أنها طلبت قبل سنوات قليلة من ابنها خليل أن يرافقها إلى عين دامية الواقعة شرق جنوب لوبية، حيث بساتين وبيارات من الحمضيات والفواكه على أنواعها بمساحات شاسعة تعود للعائلة في منطقة خصبة كقطعة من الجنة. تلك العين الطبيعية ومياهها العذبة التي كانت تروي المواشي والبساتين وكانت مرتعا للصبا والطفولة. وتقول: بحثنا عنها كثيراً إلى حين وصلناها، وتجولنا هناك، حيث تركت غصة حارقة وقاتلة أبكتني وستبكيني في مماتي، ولن أنسى تلك الجريمة التي سلبتنا الطفولة ونهبت المكان والإنسان دون أن تعترف بهذا الجرم التاريخي حتى اليوم.

أبو خليل: سمعنا عن قتل ومجازر وطالبنا أحد وجهاء البلدة بالبقاء إلا أننا لم نستجب..

الحاج أبو خليل استعرض بدوره مشهد الاقتلاع والترهيب والتشريد، وقال: "كان الناس يدركون أن هناك مؤامرة، ولم نثق بجيش الإنقاذ العربي، ولكن لم يع الناس ماذا يدور، ولم يعوا طبيعة وحجم المخطط الصهيوني والاستعماري، وعندما سمعنا عن سقوط البلدات المجاورة مثل الحدثة وكفر سبت وعولم ومعذر، دب الرعب والخوف من هول المجازر في قلوب الناس، وعندما وصل اليهود إلى لوبية بعد احتلال وترويع تلك البلدات حصلت مقاومة شرسة، ولكن لم تكن المعركة متكافئة، فجيش اليهود اعتمد التخطيط والعلوم العسكرية، وجاء مدربًا ومسلحًا مقابل مجتمع بدائي غير مدرك لهذا المخطط وحجمه، إضافة إلى انعدام الوسائل والقيادة المجربة. سقط في هذه المعارك قرابة الـ17 شهيدا، وعدد من الجنود اليهود".

 

وأضاف الحاج جودي: "عندما قرر الناس النزوح، الذي لم يدركوا أبعاده وعواقبه، تدخل أحد وجهاء البلدة، وهو حسن أبو دهيس الذي كانت تربطه علاقة مع اليهود الفلسطينيين في طبرية وشراكة عمل معهم وهو ميسور الحال ومالك لكسارة ومطحنة ما زالت حتى اليوم في مدخل مدينة طبرية، وطالب الناس بألا يخرجوا ويتركوا البلدة. وقال: "اللي بصير علي بصير عليكم"، إلا أن الناس اتهموه بالخيانة والعمل لصالح اليهود، وبسبب ذلك ركب سيارته التي كان يملكها برفقة عائلته ونزح إلى لبنان". ويؤكد الحاج أن "أبو دهيس لم يكن متعاونًا مع اليهود كما راج، بل حاول استغلال علاقاته للحفاظ على الأهالي ومنع التهجير".

وتابع أبو خليل حديثه: "ترافقتنا الحسرة على مدار 66 سنة، وسترافقنا حتى الممات، لكني سأفارق الحياة وأنا على أمل بأن يعود أبناؤنا أو حفادنا أو لفادنا (أبناء حفادنا)، وهذا ما يدفعنا للتواصل مع بلدتنا ومع أرضنا، ونحن نملك هنا 200 دونم من الأرض الخصبة التي يفلحها اليهود، لكن رفضنا التنازل عنها، ولن نساوم عليها بتعويضات هزيلة لنعطيهم الشرعية عليها، وسنتمسك بحقنا الشرعي على هذه الأرض مهما كلف الأمر".

وختم بالقول: "إن مسيرة العودة السنوية التي ستتم الثلاثاء، السادس من الشهر الجاري، على أراضي لوبية هي الرسالة الأهم للأجيال للتأكيد على الحق المشروع القانوني والإنساني لأصحاب الأرض وأصحاب البلاد الأصليين، وعلى السلطات أن تدرك ذلك، وأن تتدارك، فالزمن سيفعل فعله، وحتى إن مات الكبار فإن الأجيال لن تنسى، وسننقل الرواية من جيل إلى جيل، ونحن نثق بهذا الجيل رغم كل الشوائب إلا أنه جيل سيكون صاحب إرادة وصاحب قرار، ولن يقبل باستمرار النكبة، ولن يقبل بأقل من الحق التاريخي وحق العودة".
 



السابق

غزة تحيي ذكرى "النكبة" تحت شعار "راجع يا دار"

التالي

انتخابات مجلس معلمي "الأونروا" في عمّان اليوم


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة "Gaza Writes Back"

  !israel is a piece of shit and they know ittwitter.com/ThisIsGaZa/status/595385208385449985/photo/1 




تغريدة "عاصم النبيه- غزة"

 عندك القسام وبتأيد داعش؟ روح استغفر ربك يا زلمة.. #غزةtwitter.com/AsemAlnabeh/status/595507704338186240
 




تغريدة "أحمد بن راشد بن سعيد"

القاهرة تنتفض ضد قرار تقسيم #فلسطين عام 1947.كان زمان!لكن تظل #فلسطين_قضيتناtwitter.com/LoveLiberty/status/594548013504307200/photo/1




تغريدة "Joe Catron"

 Take a moment to thank "@MsLaurynHill" for cancelling her concert in occupied Palestinetwitter.com/jncatron/status/595337215695192064/photo/1




تغريدة "Dr. Ramy Abdu"

 المغنية الأمريكية المشهورة لورين هيل تلغي حفلها الفني في "إسرائيل" بعد حملة واسعة لنشطاء حركة المقاطعة.twitter.com/RamAbdu/status/595530542910742528




تغريدة "النائب جمال الخضري"

في #غزة يقهرون الإعاقة ويلعبون الكرة الطائرة أطرافهم بترت اثناء الحرب على غزة لا يأس ولكن عزيمة وصمود لهم التحية.twitter.com/jamalkhoudary/status/595520655858147328





 

حسام شاكر

الإبداع في ذروته .. رفعت العرعير مثالاً

أيُّ إبداعٍ يُضاهي أن تُنسَج القصيدة المعبِّرةُ من نزفِ شاعرها أو أن تصير الكلمات المنقوشة بالتضحيات العزيزة محفوظاتٍ مُعولَمة في … تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    لاعب خط الوسط الأردني محمود مرضي يرفع قمصيه كاتباً "هي قضية الشرفاء" ، بعد تسجيل هدف لمنتخبه ضد ماليزيا.
    لاعب خط الوسط الأردني محمود مرضي يرفع قمصيه كاتباً "هي قضية الشرفاء" ، بعد تسجيل هدف لمنتخبه ضد ماليزيا.