لا تزال زهرة خمرة (78 عاماً) وهي من مدينة حيفا في فلسطين، تستيقظ ليلاً وتبكي عندما تعاودها ذكريات الرعب والتفجيرات التي نفذتها عصابات صهيونية قبل سقوط المدينة في 22 نيسان العام 1948، وما عانته بعد ذلك.

تقول العجوز الفلسطينية "كان عمري 12 عاماً عندما فجّرت المنظمات الصهيونية مئذنة جامع الجريني في حيفا العتيقة وقتل عدد كبير من الناس، وتلطخت جدران الجامع بالدماء وببقايا أشلاء آدمية".

وتوضّح أنه "عندما سقطت المدينة بأيدي المنظمات اليهودية كنا مختبئين في بيت جدي في شارع الكنائس في البلدة القديمة، خافت والدتي من أن يقتلونا فهربت بنا مع جدتي وخالتي وهربنا باتجاه البوابة الشرقية نحو الميناء، وعند الميناء أخفت والدتي وجهي حتى لا أرى قتلى، لكني سمعت خالتي تتحدث عنهم".

وتضيف زهرة أنه "عندما وصلنا إلى الميناء فتح لنا الجنود البريطانيون البوابة باتجاه البحر وقالوا (يلا روخ .. روخ) وذهبنا بالزحافة (قارب) وتوجهنا إلى بيت خالتي في عكا".

وتروي: "كانت معنا امرأة من وادي الصليب في الزحافة، اكتشفت في الطريق أنها حملت المخدة بدلاً من ابنها وصارت تصرخ بأعلى صوتها تريد العودة، وأنا لا أزال أذكر صراخها وبكاءها تريد أن ترجع لتعيد ابنها، لكن الجميع أثنوها عن ذلك وقالوا لها سيقتلونك إن عدت الآن، لست أدري ما حلّ بها بعد ذلك، كل ما أذكره بكاءها وصوتها".

وتوضح زهرة "وصلنا إلى عكا وبقينا فترة وجيزة، وعندما اشتدت الهجمة عليها هربنا إلى مخيم المية ومية في لبنان، ثم جاء جنود لبنانيون ومعهم شاحنات وصاروا يحملون الناس ويقولون (يلا إلى تركيا) وأنا مرعوبة خائفة، كنا نبكي ونتوسّل ألا يأخذونا".

وتذكر زهرة أنه بعد ذلك ذهبت إلى سوريا وعانت اللجوء مع عائلتها ثم عادت إلى حيفا مع والدتها في العام 1950 بطلب من والدها الذي بقي في حيفا، حيث صودرت جميع أملاكهم. وتقول "هدم بيت جدي القديم وبنوا مكانه بناية التأمين الوطني الإسرائيلي".

والجدير بالذكر أنه في قرار تقسيم الأمم المتحدة لفلسطين المحتلة في 29 تشرين الثاني العام 1947، كانت حيفا ضمن “إسرائيل” كمدينة مختلطة.

من جهته، قال مؤرخ مدينة حيفا الدكتور جوني منصور إن "حيفا أصغر مدينة فلسطينية بناها ظاهر العمر قبل 253 عاماً وكانت مسورة وفيها سوق القصبة وقناطر مثل مدينة القدس ونابلس، وبنيت المدينة الحديثة للأحياء العربية في العام 1875 بعدما سمحت السلطات العثمانية بالبناء خارج الأسوار".

وأضاف منصور أنه "بمجرد سقوط مدينة حيفا هدمت “إسرائيل” المدينة القديمة وأسواقها ومعظم الأحياء العربية خارج الأسوار. وبقي من المدينة العتيقة جامع الجريني وكنيسة السيدة التي فتحت فقط في العام 1986، أما آخر قسم من السور الذي كنا نراه حتى سنوات السبعينيات، فردم تحت شارع شق هناك". وعرض منصور صوراً للمدينة من بداية القرن الماضي تظهر أسواقها وحياة الناس فيها.

وكان عدد سكان حيفا حتى العام 1948 نحو 70 ألف عربي و72 ألف يهودي، وزاد عدد اليهود بسبب هجرتهم بعد الحرب العالمية الثانية.

وأكد منصور أن "سقوط حيفا وهجرة العرب منها كان على مراحل خلال موجات من الإرهاب المنظم وتفجير أماكن مأهولة بالسكان ببراميل المتفجرات والقناصة، ويوم سقوط حيفا أغلقت المنظمات الصهيونية المدينة من ثلاث جهات بالتنسيق مع الجيش البريطاني وفتحت فقط طريق الهرب إلى الميناء"، مضيفاً أنه "بعد تفريغ السكان العرب والتنظيف العرقي... بقي في حيفا نحو 2500 عربي".

وجمعت “إسرائيل” العرب في حي وادي النسناس ولم تهدمه، كما أبقت على حي عباس والحليصة وشارع يافا ووادي الجمال خارج الأسوار. وأبقت أيضاً على حي وادي الصليب الذي هجر من سكانه المسلمين والمسيحيين، ووطنت يهوداً شرقيين، وبعد ذلك غادروه.

وصار الحي خالياً مهملاً لكن بناءه العربي الحجري لا يزال مميزاً بشبابيكه ذات الأقواس والانحناءات. وهدمت “إسرائيل” السرايا القديمة دار الحكومة العثمانية وكانت أيضاً دار الحاكم البريطاني، وأقامت مكانها بناية مقار الحكومة على شكل صاروخ عملاق. كما هوّدت أسماء الشوارع، وهو ما اعتبره منصور "يقع ضمن مخطط إبادة المشهد الثقافي في حيفا والمدن الفلسطينية".

(أ ف ب)